في تسعينيّات القرن الماضي كان في برنامج “نهاركم سعيد” الصباحيّ، الذي تبثّه قناة “LBC”، فقرةٌ تحمل اسم “الكنز المفقود”. تعتمد الفقرة على صندوق، يتّصل المشاهدون ويحاولون معرفة ما في داخله من خلال طرح ثلاثة أسئلة، ومَن يكشفْ محتوى الصندوق يربحْ جائزة.
عندما كان اللبنانيّون حينذاك يتابعون هذا البرنامج، في مرحلة الرخاء النسبيّ، بعد انتهاء حروبهم الأهليّة، ما كانوا ليتخيّلوا يوماً أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى “كنز مفقود” داخل صندوق كبير. اليوم يحزِر المجتمعُ الدولي “الكنزَ المفقود”: “أهو موجود في الصندوق، أم غارق في الفساد، أم سلطته مجرمة، أم سياسيّوه وقحون، أم له رائحة نفايات، أم في بحره بلوكات غاز، أم دولاره بـ12 ألف ليرة؟.”
تقول أغنية لأحمد قعبور إنّ بيروت “صندوق فرجة كبير”. والواقع أنّ العبارة تصلح لتشمل لبنان بأسره. لبنان هو من أصبح “صندوق فرجة كبير”، لكن بالمعنى السلبيّ للكلمة. والعالم كلّه يتفرّج على اللبنانيّين، الكنز المفقود، معلَّبين بصناديق صغيرة داخل صندوق الفرجة. وحكاية اللبنانيّين مع الصناديق طويلة، وتمتدّ إلى مجالات كثيرة، إذ لا يكاد يخلو مجال في لبنان من حضور الصندوق.
اليوم مع الانهيار الاقتصاديّ، الذي يبدو كأنّه حادث طائرة مأسوي لم يعثر على صندوقها الأسود، يتحوّل لبنان إلى صندوق تبرّعات كبير
فقد قيل كثيراً إنّ لبنان “صندوق بريد” بين دول العالم، في إطار تبرير تحوّله إلى ساحة لتبادل الرسائل في الحرب والسلم. وبعد الحرب فرّخت الصناديق، التي كانت مغارات فساد، كصندوق الجنوب وصندوق المهجّرين، وغيرها من الصناديق التي استخدمتها السلطة لتنفيع زبانيتها وجعلتها باباً للحصول على أموال طائلة بسبب غياب الرقابة عليها.
وقيل أيضاً إنّ لبنان يتميّز عن غيره من الدول العربية بصندوق الاقتراع، في إشارة إلى تمتّعه بـ”ديموقراطية” مفترضة تبيّن لاحقاً أنّها وهمٌ أنتج أعتى الديكتاتوريّات التوافقيّة في المنطقة، فقد أطاح “الربيع العربي” بأعتى الطغاة، وعجز لبنان، حتّى مع ثورة تشرين المجيدة، عن تغيير طقم سياسيّ يحكمه منذ عقود.
عندما كان اللبنانيّون حينذاك يتابعون هذا البرنامج، في مرحلة الرخاء النسبيّ، بعد انتهاء حروبهم الأهليّة، ما كانوا ليتخيّلوا يوماً أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى “كنز مفقود” داخل صندوق كبير
اليوم مع الانهيار الاقتصاديّ، الذي يبدو كأنّه حادث طائرة مأسوي لم يعثر على صندوقها الأسود، يتحوّل لبنان إلى صندوق تبرّعات كبير. تتسوّل الطبقة السياسية قروضاً ومساعدات من الخارج، والخارج لا يصدّقها ولا يضع في صندوقها أيّ فلس، مطالباً إياها بالإصلاحات. في الوقت نفسه تعمل الطبقة السياسية على إعطاء جمهورها وناخبيها رشوةً عبر إسكات جوعهم بصناديق إعاشات.
إقرأ أيضاً: حكاية “غالون” الزّيت: وصفة الاشتباك…
معظم الأحزاب، حتّى تلك التي تدّعي وقوفاً إلى جانب الثورة، ذهبت إلى ترتيب صناديق تملأها بموادّ غذائية لشراء صمت الناس وتفادي أن يشهروا سيوف اعتراضهم إذا جاعوا، تمهيداً لانتخابات نيابيّة مقبلة، لا يبدو أنّها ستُخاض بمال انتخابيّ كما جرت العادة، بل ستُخاض هذه المرّة بصناديق إعاشات وبلقاحات، أي بما تمسك به السلطة السياسية من أساسيّات عيش اللبنانيّين، الغذاء والدواء.
صندوقان إضافيّان، أحلاهما مرّ، يبدو أنّهما سيكونان مستقبل لبنان واللبنانيّين: الأوّل هو صندوق النقد الدولي، الذي يعلّق عليه كثيرون آمالاً في انتشال لبنان من براثن السلطة السياسيّة الحاليّة، والذي سيضع لبنان تحت وصاية اقتصادية دولية تفرض إصلاحات وضرائب وخصخصة على حساب الفئات الأكثر فقراً. ويبقى صندوق أخير متاحاً، وحده، أمام كثير من اللبنانيين: التابوت.