لم يسبق أن طالب أيّ حزب سياسي في لبنان بحقوق طائفة معيّنة مثلما فعل ويفعل التيار الوطني الحرّ. والمشكلة الأساسية لا تنحصر في هذه المطالبة، بل في أنّه جعلها عنواناً رئيسياً في السردية السياسية المسيحية، لا تسقط مع تراجعه الشعبي، بل باتت تجبر بقية الأحزاب المسيحية الرئيسية على الخضوع لـ”حكايتها”. بعدما “قلب” العماد ميشال عون بعد عودته من فرنسا هذه السردية من سيادية إلى “حقوقية” هدفها استعادة ما “سُلب” من المسيحييت بعد الحرب، وأدخلها في العقل الجمعي المسيحي.
وقد استثمر التيار إلى أقصى حدود في “القضية المسيحية” التي نشأت بعد الحرب، والتي أعلنتها المقاطعة المسيحية لانتخابات عام 1992. قاطعها المسيحيون بعنوان رفض إجراء انتخابات في ظلّ الوصاية السورية. ثمّ رفع التيار من بين أحزاب وقوى أخرى، إضافة إلى البطريركية المارونية، شعار “تهميش المسيحيّين” وإبعادهم عن الحكم من خلال فرض الوصاية السورية لممثّليهم في السلطة.
لكن بعد انتخابات عام 2005، كرّس التيار الوطني الحرّ نفسه الحامل الرئيسي لهذه القضية، وحوّل شعارها الرئيسي من رفض تهميش المسيحيّين إلى المطالبة بحقوقهم.
وخاض التيار، تحت هذا العنوان، كلّ معاركه الانتخابية والسياسية وربح معظمها. وتدريجاً اقتنعت الأحزاب المسيحية الأخرى أنّ شرط نجاحها السياسي في الوسط المسيحي هو تقديمها هذا العنوان على العناوين السياسية الأخرى في خطابها وممارستها، وهو ما يمكن معاينته لدى القوّات اللبنانية، وتحديداً منذ ما بعد انتخابات عام 2009.
استثمر التيار إلى أقصى حدود في “القضية المسيحية” التي نشأت بعد الحرب، والتي أعلنتها المقاطعة المسيحية لانتخابات عام 1992
واستطاع التيار، برفعه هذا العنوان، على مدى سنوات، أن يرسم السقف السياسي الرئيسي لدى المسيحيين. ولعلّ تفاهم معراب بين القوّات والتيار كان أبلغ تعبير عن ذلك، إذ كان بمنزلة إعلان رسمي من القوّات عن انضوائها تحت هذا السقف، بدءاً من انتخاب الرئيس ميشال عون بوصفه “الرئيس القوي”، ثمّ بالموافقة على قانون انتخابي يسمح للمسيحيّين بانتخاب أكبر عدد من نوّابهم، بغضّ النظر عن أيّ نتائج سياسية “وطنية” تسبّب بها هذا القانون.
ما لم تقُله التيارات السياسية الراجحة لدى المسيحيّين صراحةً طوال تلك الفترة هو أنّ ما تعتبره مسّاً بحقوقهم متأتٍّ على نحو رئيسي من تراجع نفوذهم في لبنان بعد الحرب، وقد كانت تلك الحرب في جزء منها بسبب هذا النفوذ أو ردّاً عليه.
بعد الحرب انتقل النفوذ إلى الوصاية السورية، ثمّ بعد عام 2005 تحوّل تدريجاً، ولا سيّما بعد 7 أيار 2008، إلى حزب الله حليف التيار الوطني الحر، وهنا المفارقة الكبرى. إذ إنّ تحالف التيار مع الحزب كشف تدريجاً “قضية” التيار التي تحوّلت إلى سعي نحو السلطة تحت شعاري “حقوق المسيحيين”، ثمّ “الرئيس القوي”.
لقد ربط التيار منذ 6 شباط 2006 بين استرجاع حقوق المسيحيين وبين وصوله هو إلى رئاسة الجمهورية بدعم وتأييد حزب الله، صاحب النفوذ الأقوى في لبنان بسبب سلاحه بالدرجة الأولى.
بيّن هذا التحالف، معطوفاً على كلّ سياسات التيار بعد عام 2005، أنّ معارضته الوصاية السورية كانت مرتكزة على نحو رئيسي على تغطيتها استحواذ الطوائف الأخرى على ما يسمّيه التّيار نفسه “حقوق المسيحيين”. وتبيّن أنّ معارضة التيار للوصاية لم تكن “سيادية” بل لأنّها استبعدته عن السلطة. فتفاهم “مار مخايل” تجاوز الاعتبارات المبدئية السيادية التي كان التيار يرفع لواءها في زمن السوريّين، وكان هدفه الرئيسي منه الوصول إلى السلطة.
والحال لم تكن مطالبة التيار بحقوق المسيحيين تهدف إلى توفير مشاركة أكبر للمسيحيّين في صنع القرار السياسي داخل الدولة بقدر ما كانت تهدف إلى توسيع قاعدة التيار في السلطة، وعبرها في الدولة التي تحوّلت إلى مربّعات مذهبية مكرّسة بالممارسات السياسيّة المخالفة للدستور والمعطِّلة له. ناهيك عن أنّ منطق حقوق المسيحيين مُستمدّ من زمن الحرب لأنّه يفترض تهديداً وجودياً للمسيحيّين من قبل طوائف أخرى، ويكون المسيحيّون محتاجين، وفق هذا المنطق التخويفي، إلى ضمانة أحزابهم لا إلى ضمانة الدولة. وهذه نسخة سياسية للضمانة العسكرية في الحرب.
لقد ربط التيار منذ 6 شباط 2006 بين استرجاع حقوق المسيحيين وبين وصوله هو إلى رئاسة الجمهورية بدعم وتأييد حزب الله، صاحب النفوذ الأقوى في لبنان بسبب سلاحه بالدرجة الأولى
ولعلّ تحالف التيّار مع الحزب يعزّز هذا المنطق ما دام الحزب حالة حربية مسلّحة وما دام هذا التحالف، على الرغم من ارتجاجاته، يردّد بقوّة أصداء حلف الأقلّيات ذي المنطق الحربي التخويفي والحمائي في الوقت نفسه.
ويحيلنا هذا إلى الفارق الأساسي بين مطالبة المسلمين بـ”المشاركة” قبل الحرب، ومطالبة المسيحيّين بحقوقهم بعد الحرب. فقبل الحرب لم تلغِ الهيمنة المارونية على الدولة الدولة نفسها، بل إنّ تمسّك الموارنة بحدود نفوذهم الواسعة في الدولة وردّة الفعل الإسلامية واليساريّة على هذا التمسّك أدّيا تدريجاً إلى سقوط تلك الدولة نسبياً.
كان هدف المسلمين قبل الحرب المشاركة في صنع القرار السياسي للدولة، بينما التيار أقام بعد 2005 معادلة جديدة قوامها القبول بقاعدة أوسع في السلطة والتسليم ببقاء القرار السياسي للدولة خارجها، أي عند حزب الله بالدرجة الأولى.
ربّ قائلٍ إنّ فشل العهد أسقط منطق التيّار هذا، لكنّ الدكتور سمير جعجع قال في مقابلته الأخيرة عبر تلفزيون “الجديد” إنّ “ميشال عون هو من فشل، إلا أنّ الرئيس القوي لم يفشل، فإذا ما عاد رفيق الحريري إلى الحياة بعجيبة ما، فهل نقول يجب ألّا نأتي به إلى رئاسة الحكومة لأنّه الأقوى في طائفته، وحسبنا في هذا أنّ عون قد فشل؟ بالطبع هذا غير مقبول”.
يؤكّد كلام جعجع رهانه على أنّ فشل التيار الوطني الحرّ لا يعني سقوط منطقه السياسي في الوسط المسيحي.
هكذا يحاول مسوّقو هذه النظرية تبيان أنّها تنطوي على مساواة بين الأقوياء في السلطة، بينما الحقيقة عكس ذلك تماماً، إذ إنّ الديناميكية الرئيسة لهذه النظرية تستند إلى تفوّق قوّة حزب الله على قوّة اللاعبين الآخرين، وهو ما يقلب قوّتهم إزاء قوّة الحزب ضعفاً، والأخطر أنّه يقدّم منطق السلطة على منطق الدولة، ويجعل المنطق السياسي امتداداً لمنطق الحرب.
ربّ قائلٍ إنّ فشل العهد أسقط منطق التيّار هذا، لكنّ الدكتور سمير جعجع قال في مقابلته الأخيرة عبر تلفزيون “الجديد” إنّ “ميشال عون هو من فشل، إلا أنّ الرئيس القوي لم يفشل”
إنّ تقديم الأحزاب المسيحيّة الرئيسة السلطةَ على الدولة، كلٌّ على طريقته، يدفع إلى التفكير في واقع المسيحيّين الراهن وتحدّياته الكثيرة. وقد أثبتت تجربة العهد الحالي أنّ وصول أقوى زعمائهم إلى السلطة لا يجيب عليها بل يفاقمها. لأنّ عهد عون أثبت أن هذه النظرية في الواقع السياسي الحالي تؤدي إلى مزيد من تفريغ السلطة للدولة لأنّها تضفي طابعاً “شرعيّاً” على المحاصصة السياسية/الطائفية في الدولة. أي أنّها نظرية تقوّض الدولة التي أدّى انهيارها عام 1975 إلى هجرة كثيفة للمسيحيّين من لبنان. وحينها بلغت نسبة المهاجرين المسيحيّين من لبنان، بين 1975 و1990، 70 في المئة من مجمل المهاجرين اللبنانيّين. وهو دليل واضح على ارتباط هجرة المسيحيّين بتفكّك الدولة، أي أنّ الدولة هي الضمانة الرئيسة والفعليّة للمسيحيّين لا أحزابهم “القوية”.
إقرأ أيضاً: ميشال عون الضائع بين الحقيقة والخيال
وقد بلغ عدد المسيحيّين، الذين غادروا لبنان في العام الماضي، بحسب “الدولية للمعلومات”، نحو 6000 شخص من أصل نحو 17500 شخص غادروا لبنان. وهي نسبة غير قليلة إذا ما أخذنا في الاعتبار عدد المسيحيّين اللبنانيين البالغ مليوناً وثلاثمئة ألف مقابل ثلاثة ملايين مسلم، بحسب المصدر نفسه. وتجدر الإشارة إلى أنّ عام 2020 ليس مؤشراً كافياً إلى الهجرة بالنظر إلى إغلاق المطارات بسبب كورونا وسوء الأوضاع المعيشية، التي أعاقت قدرة اللبنانيّين على السفر والهجرة.
وفي هذا السياق يُطرح سؤالٌ رئيسٌ: ما فائدة رفع نسبة الموظفين المسيحيين في الدولة من 20 في المئة إلى 50 في المئة، إذا كان النموّ الديموغرافي للمسيحيّين في لبنان يتراجع باستمرار بفعل الهجرة وسوء الأوضاع المعيشية بوصفهما ارتداداً لانهيار الدولة؟
الإجابة عن هذا السؤال تفضح نظريّتيْ “حقوق المسيحيّين” و”الرئيس القويّ”… والعبرة لِمَن يعتبر!