عندما دعا الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله اللبنانيين إلى التوجّه شرقاً، لم يكن يتحدث عن خطة منهجية أو خارطة طريق أعدّها حزبه وتهدف إلى ازدهار لبنان وانتشاله من كبوته الاقتصادية، بل كانت دعوته تنطلق من مبدأ “التشبّه” بما يقوم به المحور الإيراني فحسب.
يتجلّى ذلك في توقيع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الصيني وانغ يي، يوم السبت الفائت في طهران، على وثيقة “برنامج التعاون الشامل” التي تمتدّ إلى 25 سنة، وتهدف إلى “تعزيز الروابط والعلاقات بينهما”، بعد شهور وشهور من التفاوض والتحضيرات.
المفارقة التي لم يقلْها نصرالله في دعواته المكرّرة، وربّما لا يعترف بها، هي أن إيران لم تتوجّه شرقاً بقدر توجّه الصين غرباً بهدوء تام وبرويّة وحكمة. فالتوقيع على الوثيقة جاء بعد مباحثات انطلقت قبل 6 سنوات، خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى طهران، ولم تبصر النور إلاّ قبل أيام.
كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، يوم السبت الفائت، أنّ التركيز سيكون على البعد الاقتصادي وعلى الاستثمارات في الاقتصاد الإيراني، وقد قدّرتها بنحو 400 مليار دولار لمدة 25 عاماً، وعلى بُعد عسكري يهدف إلى تعميق التعاون في مجالات التدريبات العسكرية والأبحاث المشتركة وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية
وكانت الصين جمّدت الاتفاقية بعد انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 وفرضه عقوبات شاملة على طهران. ولم توقّع بكين عليها إلاّ بعد وصول المرشح الديموقراطي جو بايدن إلى الرئاسة واحتمال تبنّيه مقاربة أخرى مع طهران قائمة على “الدبلوماسية والحوار”، بخلاف تلك القائمة على فرض العقوبات على طهران والمتعاملين معها، التي اعتمدها سلفه ترامب، فاستطاعت أن تخفض حجم التبادل التجاري بين طهران وبكين في غضون عام 2020 إلى أدنى مستوى منذ 16 عاماً، إذ وصل إلى حدود 20 مليار دولار، بعدما كان نحو 52 ملياراً في عام 2014.
ما زالت بنود الوثيقة سرّية حتى اللحظة، لكنّ المحور الأساسي فيها ينطلق من مشاركة إيران في مشروع “الحزام والطريق” الصيني لإقامة مشاريع بنى تحتية تعزّز علاقات بكين التجارية مع كلّ دول آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتغطّي المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والدفاعية والزراعية والثقافية والإعلامية. وبحسب بعض ما سُرّب منها خلال العام الماضي، ونقلته تقارير إخبارية غربية، تسعى بكين وطهران من خلال هذه الوثيقة إلى شراكة استراتيجية شاملة على أساس ربح ـ ربح (Win-Win) في المجالات الثنائية والإقليمية والدولية.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز“ الأميركية، يوم السبت الفائت، أنّ التركيز سيكون على البعد الاقتصادي وعلى الاستثمارات في الاقتصاد الإيراني، وقد قدّرتها بنحو 400 مليار دولار لمدة 25 عاماً، وعلى بُعد عسكري يهدف إلى تعميق التعاون في مجالات التدريبات العسكرية والأبحاث المشتركة وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية.
أما مجلة “Petroleum Economist” البريطانية كشفت، في شهر أيلول من عام 2019، أنّ طهران ستسمح للصين بنشر 5000 رجل أمن لحماية مشاريعها النفطية في إيران. بينما كشف الصحافي سيمون واتكينز جزءاً من التفاصيل الاقتصادية للاتفاقية، في تقرير لموقع “oilprice.com“، ومنها استثمار الصين 280 مليار دولار في تطوير قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات، مع منح الشركات الصينية الأولوية في شرائها، والحصول على “حسومات مضمونة” في أسعار هذه المواد، تصل إلى 12%، مع الحقّ في تأخير السداد لمدة تصل إلى عامين، والقدرة على دفع هذه المبالغ بأساليب ميسّرة وبالعملة الصينية، بسبب العقوبات الأميركية على إيران.
الوثيقة لاقت انتقادات في الداخل الإيراني، وأحيت الخلاف، عشية الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل، بين الإصلاحيين الداعين إلى الانفتاح على الغرب وبين المحافظين الذين يطمحون إلى “التوجه شرقاً”، وهو ما يدعونا إليه السيد نصرالله… فرأت جهات سياسية وثقافية إيرانية في الوثيقة “نسخة ثانية سرّية” من معاهدة “تركمانجاي” الموقعة بين الدولة الفارسية والإمبراطورية الروسية عام 1826، والتي تخلّت بموجبها الدولة الفارسية عن أجزاء من أراضي إقليمَيْ إيروان ونخجوان للروس ومنحتهم امتيازات اقتصادية وجمركية.
لكنّ وزارة الخارجية الإيرانية حاولت طمأنة القلقين من احتمال سيطرة الصين على المقدرات الإيرانية، كما حصل مع بعض الدول الآسيوية، فأكدت أنّ الوثيقة عبارة عن “خارطة طريق” أو “إطار عمل” لعلاقات طويلة الأمد، ولكنها رفضت في الوقت نفسه نشر بنود الوثيقة، وردّت على القول إنّ نشر الاتفاقيات أمر ملزمٌ قانوناً، بأنّ ذلك لا ينطبق على الوثائق، وهو ما أثار المزيد من الجدل والشكّ في نوايا مبيّتة لدى الدولتين.
يبدو أن خيار “التوجّه شرقاً” لن يخبو مستقبلاً لدى “حزب الله” وأمينه العام، وسيكرّره أكثر وأكثر على مسامعنا ويصرّ عليه. لكنّ ما يفوت نصرالله، أو يخفيه، أنّ الدولة العظمى، التي تُسمى الصين، قد وازنت بين خياراتها ودرستها بعناية، فانتظرت وتريّثت وانحنت في لحظة من اللحظات أمام “العاصفة”
وتكون الصين، بتوقيع الاتفاقية اليوم، قد حقّقت أكثر من مكسب استراتيجي لها، ووجهت تحذيراً قوياً للولايات المتحدة ورسمت خطّاً أحمر للنفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وتتلخّص هذه المكاسب في ما يلي:
أولاً، تمثّل الوثيقة صفعة لزعامة واشنطن للعالم. فعلى الرغم من أن الوثيقة اتفاقٌ بين دولتين، إلا أنّها مؤشر على تراجع دور الولايات المتحدة كـ”قطب أوحد”، وتفتح النقاش مجدداً حول عالم “متعدد الأقطاب” خطره على واشنطن يكمن في شرق آسيا ومنطقة الباسيفيك، وهو ما حذّر منه الديمقراطيون، بدءاً من الرئيس الأميركي باراك أوباما ووصولاً إلى المرشحة هيلاري كلينتون التي خسرت في مواجهة ترامب، وعاد إلى هذا المنطق الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. لكنّ آلية درء المخاطر التي يعتمدها الديمقراطيون إلى اليوم قد أثبتت فشلها وأظهرت أنّ مخاوف الديمقراطيين صائبة ومحقة، لكن خطوات ترامب، على جنونها وجنوحها وشعبويتها، ربّما كانت أكثر لجماً ونجاعة.
ثانياً، وفي المجال الاقتصادي ومع توقيع هذه الوثيقة، تكون الصين قد استبقت أيّ انفراجة محتملة بين طهران وبين الغرب، وتحديداً مع الولايات المتحدة، وحجزت لنفسها مكاناً متقدماً على طاولة الاتفاقات التجارية والاستثمارات في إيران، وتكون قد قطعت شوطاً كبيراً في خطة “الحزام والطريق” التي وضعتها كخطة استراتيجية كبرى.
ثالثاً، الوثيقة تعزز الموقع التفاوضي لإيران مع الولايات المتحدة ومع مجموعة “5+1” (الصين جزء منها) حول الملف النووي، وتجعل بكين أكثر تصلباً وانحيازاً إلى الموقف الإيراني في أي مفاوضات مقبلة، وستصرف النظر أو ربّما تفرض التعاطي بمزيد من الواقعية مع الخيار العسكري لردع إيران نووياً إذا فشلت المفاوضات معها.
رابعاً، هذه الوثيقة ستسرّع حكماً في مسألة فكّ العزلة الإيرانية، وستطلق يد النظام الإيراني وأذرعه الأمنية في المنطقة لممارسة المزيد من التدخلات في شؤون دولها، وخصوصاً إذا استطاعت بنود هذه الوثيقة أن تبصر النور سريعاً وتفك عزلة إيران المالية من خلال توفير مصادر جديدة لتدفق الأموال التي حُرمت منها على مدى السنوات الأربع الماضية بفعل عقوبات ترامب. وقد تكون بكين سارعت لهذه الأسباب إلى طمأنة الدول العربية المناهضة لإيران والتأكيد أنّ الطابع السري للوثيقة ليس موجهاً ضد هذه الدول (السعودية وتركيا والإمارات والبحرين وسلطنة عمان).
إقرأ أيضاُ: هكذا يُهرّب الصناعيون المليارات بحجّة التصدير
لكلّ هذه الأسباب يبدو أن خيار “التوجّه شرقاً” لن يخبو مستقبلاً لدى “حزب الله” وأمينه العام، وسيكرّره أكثر وأكثر على مسامعنا ويصرّ عليه. لكنّ ما يفوت نصرالله، أو يخفيه، أنّ الدولة العظمى، التي تُسمى الصين، قد وازنت بين خياراتها ودرستها بعناية، فانتظرت وتريّثت وانحنت في لحظة من اللحظات أمام “العاصفة”. أمّا هو فيطالبنا بمناصرته في مواجهة الولايات المتحدة… ببطوننا الخاوية وعلى العتم!