عندما صدرت وثيقة “نوسترا إيتاتي” Nostra Aetate عن المجمّع الفاتيكانيّ الثاني في عام 1965، كان الفاتيكان يعلّق آمالاً كبيرةً على دور لبنان في حمل رسالته الجديدة إلى المجتمع العربيّ، ومن خلاله إلى العالم الإسلاميّ الأوسع. ذلك أنّ الفاتيكان أعلن للمرّة الأولى أنّ المسلمين يعبدون الله الواحد ويحترمون المسيح وأمّه مريم العذراء، وأنّ الخلاف معهم هو خلاف على الإيمان بالله.
إلّا أنّ لبنان سرعان ما غرق في صراعاته الداخليّة، فبقيت الرسالة الانفتاحية الجديدة للفاتيكان من دون رسول!
لم يفقد الفاتيكان الأمل. فالبابا بولس السادس تعمّد التوقّف في مطار بيروت وهو في طريقه للحجّ في القدس (علماً بأنّ رحلات مباشرة تُنظّم بين روما وتل أبيب). بعد ذلك رفع البابا يوحنا بولس الثاني شعار “لبنان الرسالة”، ودعا إلى السينودس حول لبنان. وهي مبادرة تضمّنت سابقتين في تاريخ الكنيسة: الأولى هي أن يدعو البابا إلى سينودس حول دولة. والثانية أن يدعو الرؤساء الروحيّين المسلمين اللبنانيّين إلى حضور السينودس بصفة مشاركين لا مراقبين. ثم جاء البابا نفسه إلى بيروت ليعلن وثيقة الإرشاد الرسوليّ التي تضمّنت قسماً خاصّاً حول دور لبنان في العالم العربيّ، وتحديداً حول دور مسيحيّي لبنان.
وتلت ذلك دعوة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى عقد سينودس حول الشرق الأوسط (في عام 2010)، وتعمُّده دعوة شخصيّة إسلاميّة عربيّة واحدة لإلقاء كلمة في السينودس. وكانت هذه الشخصية مسلماً من لبنان. وجاء البابا بنفسه بعد ذلك إلى بيروت ليعلن منها وثيقة الإرشاد الرسوليّ حول الشرق الأوسط، مكرّساً بذلك دور لبنان أن يكون رسالةً في المشرق العربيّ.
لم يفقد الفاتيكان الأمل. فالبابا بولس السادس تعمّد التوقّف في مطار بيروت وهو في طريقه للحجّ في القدس. بعد ذلك رفع البابا يوحنا بولس الثاني شعار “لبنان الرسالة”، ودعا إلى السينودس حول لبنان
ولكنّ هذا القسم من السينودس لم يجد طريقه إلى التنفيذ. ولذلك اتّخذ الفاتيكان المبادرة المباشرة، فكان السينودس حول الشرق الأوسط. وبالفعل وجد أصداء وردود فعل إيجابيّة تمثّلت في عدّة مبادرات عربيّة – إسلاميّة:
– مؤتمرات الأزهر الشريف حول المواطنة والحرّيّة الدينيّة وإسقاط مقولة الأكثريّة والأقلّيّة.
– مؤتمر مراكش حول التعدّديّة الدينيّة في الدولة الوطنيّة الواحدة (صحيفة المدينة المنوّرة).
– مؤتمر أبو ظبي (حول الأخوّة الإنسانيّة بين البابا فرنسيس وإمام الأزهر أحمد الطيّب).
وفي هذه المبادرات الرئيسيّة الثلاث كان لبنان مدعوّاً ولم يكن مبادراً. مع ذلك لم يدِرْ الفاتيكان ظهره للبنان ولم يقطع الأمل من دوره، حتّى إنّه قبل زيارة البابا فرنسيس التاريخيّة للعراق، بُحِث إمكان دخول الحبر الأعظم المنطقة العربيّة من البوّابة اللبنانيّة، لكنّ الوضع في لبنان لم يكن مشجّعاً.. ولمّا يزل. ولذلك كان القرار بتأجيل الزيارة إلى موعد آخر.
وحتّى يكون موعد آخر لا بدّ من خروج (أو إخراج) لبنان من المأزق الداخليّ الذي يكاد يخنقه ويعطّل دوره الرسوليّ الذي لا يزال الفاتيكان يتطلّع أن يقوم به، وهو الدور الذي يقوم به من وراء الستار السفير البابويّ في لبنان.
لم يكن القاصد الرسوليّ بعيداً من نتائج سلسلة الزيارات التي قام بها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي للقصر الجمهوريّ. لقد كان قريباً أيضاً من الأسباب التي حملت البطريرك على إعلان سلسلة مواقفه الأخيرة التي تدين، بشدّة وبلغةٍ لا تخلو من الحدّة الكلاميّة، “أهل السلطة”، الذين حمّلهم مرّة بعد أخرى مسؤوليّة التدهور الذي أوصل لبنان إلى حافّة الهاوية، بل إلى هاويةٍ لا قرار لها..
وفي الأعراف الكنسية، تكون المواقف التي يعلنها البطريرك في تصاريح أو في بيانات أو مقابلات صحافية شيئاً، وتلك التي يطلقها أثناء القدّاس الإلهيّ (الدينيّ) شيئاً آخر. ما يقوله البطريرك أثناء القدّاس يعبّر عن موقف الكنيسة. والكنيسة واحدة. لذلك مواعظ البطريرك ليست مجرّد وجهات نظر، بل هي مواقف مبدئية جامعة وملزمة. وقد أكّدها مجلس المطارنة بعد كلّ اجتماع كان يعقده. وتصبّ كلها في حضن القاصد الرسوليّ في حريصا، التي لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن بكركي.
لم يدِرْ الفاتيكان ظهره للبنان ولم يقطع الأمل من دوره، حتّى إنّه قبل زيارة البابا فرنسيس التاريخيّة للعراق، بُحِث إمكان دخول الحبر الأعظم المنطقة العربيّة من البوّابة اللبنانيّة، لكنّ الوضع في لبنان لم يكن مشجّعاً
يعرف القاصد الرسوليّ (وهو من مالطا) أنّ لبنان بالنسبة للفاتيكان هو أكثر من دولة، لكنّه يواجه وضعاً يبدو فيه وكأنه أقلّ من ذلك، أو أنّه أصبح أقلّ من ذلك. الأمر الذي يعطّل دوره الرسوليّ الذي لا بدّ منه من أجل حمل رسالة العيش المشترك بين الطوائف والأخوّة بين الناس.
لا يستطيع البابا أنّ يحقّق رغبته ورغبة اللبنانيّين بزيارة لبنان طالما يبقى لبنان بلا حكومة.. وطالما يقف على مشارف الانهيار. لذلك كان من الطبيعيّ أن يسأل القاصد الرسوليّ الرئيس ميشال عون عن أسباب استمرار الدوران في فراغ تشكيل الحكومة، وعن عدم تحقيق الإصلاحات التي يراها المجتمع الدوليّ مدخلاً وأساساً لمساعدة لبنان.
إقرأ أيضاً: البابا في العراق: رسالة إلى “مواطنيّة” الشيعة
كان يمكن أن يترك المجتمع الدوليّ لبنان وشأنه، كما حدث في الصومال مثلاً، أو في الكونغو. ولكنّ للبنان موقعاً خاصّاً في العاطفة الفاتيكانيّة، وله معنىً آخر ودوراً آخر، وهو الدور الذي تعثّر منذ صدور وثيقة نوسترا إيتاتي عام 1965 حتى اليوم، والذي يستمرّ في التعثّر نتيجة فشل الدولة اللبنانيّة.
بالنسبة للفاتيكان لا يمكن لرسول يعاني هذا التعثّر أن يحمل رسالة في مستوى العيش المشترك والأخوّة الإنسانيّة. من هنا كلّما طال أمد التعثّر اللبنانيّ وعمقه، يتوجّه الفاتيكان إلى بدائل أخرى.. فالمهمّ هو الرسالة!!