“اليوم تعرّفنا إلى أمهاتكم كلّكم”، هي واحدة من العبارات الساخرة التي يردّدها ناشطون كلّ عام في عيد الأمّ، بعد أن تتحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى جدران تعلوها صور الأمهات مع قلوب حمراء وبيضاء ومعايدات.
غير أنّ تلك العواطف الإلكترونيّة لا تعكس بالضرورة الصورة الحقيقيّة لواقع العلاقات بين هؤلاء الناشطين وبين أمّهاتهم. فكثيرون من الذين حوّلوا هذا اليوم إلى مناسبة يستعرضون خلالها مشاعرهم السخيّة والجيّاشة، حقيقتهم مختلفة.
يبتسم أحد الأصدقاء حين أقول هذا الرأي أمامه، قائلاً: “هل ترين هذا؟ لم يرفع السمّاعة منذ عام ليقول لوالدته “كيفك”، فيما يُطربنا كلّ عام بأنّه الابن البارّ”. أسأله عن التفاصيل، فيجدّد الابتسامة، مكتفياً بالقول: “المجالس بالأمانات”.
بالتأكيد تمتلىء مواقع التواصل بالمشاعر المزيّفة، هذا ليس جديداً. غير أنّ ما استوقف البعض في رحلة عيد الأمّ السنوية، هو صور لأمّهات أنيقات “وعلى آخر موضة”. أمّهات لم تعرف التجاعيد طريقها إلى تضاريس وجوههنّ، ولم يرسم الزمن هالاته السوداء تحت عيونهنّ.
تلك العواطف الإلكترونيّة لا تعكس بالضرورة الصورة الحقيقيّة لواقع العلاقات بين هؤلاء الناشطين وبين أمّهاتهم. فكثيرون من الذين حوّلوا هذا اليوم إلى مناسبة يستعرضون خلالها مشاعرهم السخيّة والجيّاشة، حقيقتهم مختلفة
بحثت عن صور لأمّهات عاديّات، أمّهات يشبهن أمّهاتنا، والأمّهات اللواتي نصادفهنّ في حياتنا اليوميّة. لم أجد إلاّ ما قلّ وندر. وكأنّ الأمّ البسيطة المُنهكة لا يليق بها “الترند” ولا تليق بها المناسبة على مواقع التواصل.
تذكّرت حينها “أمّ بلال”، المرأة الخمسينيّة التي كانت عاملة تنظيف في مدرستي الرسميّة. ويذكرها كثيرون ممن تعلّموا في “مدرسة طرابلس الرسمية”.
تذكّرت “أم بلال” بهندامها البسيط. وأكثر ما احتفظت به ذاكرتي هو وجهها، المليء بالتجاعيد كأنّها ماثلة أمامي اليوم، بيديها المشقّقتين، هي التي كانت تعمل “من الفجر إلى النجر” لإعالة عائلتها.
“أمّ بلال” كانت قويّة البنية والحضور. فرضت هيبتها على الطالبات تخطّت هيبة المديرين بأشواط. كانت تسبقنا إلى الدوام المدرسيّ، وتخرج بعدنا.. لم نرَها تبتسم إلّا نادراً. كانت دوماً غارقة في العمل وحينما كانت تجد لها فسحة لتتنفّس، كانت تتّخذ من زاوية الملعب مأوىً لها، فتستند إلى شجرة هناك، وعيناها شاردتان في السماء، فيما فمها كان يتلهّى بالسيجارة التي كانت تدخّنها خلسةً عن المعلّمين والإدارة، في تواطؤ غير معلن بينها وبين بعض الطالبات.
إقرأ أيضاً: بطلة من كوماندوس مستشفى الحريري: رشا لم تحضن ابنتها منذ شهر
في تلك المرحلة، لم أكن أفهم شقاء “أمّ بلال”، والسؤال الوحيد الذي كان يدور في رأسي الطفوليّ: أين هم أبناؤها؟ فهم على الأغلب في سنّ الشباب والصبا. فلماذا لا يبحثون لها عن سبل للراحة من هذا العمل المنهك؟ وكانت تخبرنا عن أطفالها العشرينيين.
وكان السؤال دوماً من دون إجابة. فهذه المرأة كانت في المدرسة قبلي، وعاصرت جيلاً قبل جيلي. ربما شبّت هنا، وارتضت الشقاء لأجل تربية أبنائها. ربّما منهم من يكتب اليوم عنها ويمتدح تضحياتها.
تحية إلى “أمّ بلال” في هذا العيد. والويل لبلال، الذي بات هناك جيش من الناشطين يشبهونه.