يكشف كتاب صادر عن “جمعية الاقتصاد السياسي اللبنانية” عام 1948، أي بعد خمس سنوات فقط من نيل الاستقلال، تحت عنوان “التصميم الإنشائي للاقتصاد اللبناني وإصلاح الدولة“، أنّ لبنان يستورد أضعاف ما يصدّره، وأنّ التعويض عن هذا العجز التجاري الفادح يكون من خلال التجارة الدولية، وإرساليات (تحويلات) المغتربين، والسياحة، والتعليم، والمستشفيات، وغيرها. هذا يعني ببساطة أنّ الإصلاح البنيوي كان مطلوباً منذ ذلك الوقت، ليس سياسياً وحسب، بل في المجال الاقتصادي الاجتماعي أيضاً. ولمّا تزل مقولة الإصلاح شعاراً يدندن به السياسيون، وليست حكراً على تيار الإصلاح والتغيير.
وفي رسالة التجديد له ست سنوات أخرى، في 21 أيلول عام 1949، وعد الرئيس بشارة الخوري بالإصلاح السياسي. وكان الداعي إلى التجديد، كما يقول في كتابه “حقائق لبنانية”، أمرين: التجديد للرئيس شكري القوتلي في سوريا قبل عام من انتهاء ولايته، والحرب في فلسطين. فكانت العاقبة مختلفة جذرياً عن البداية. قوبل التجديد بمظاهر الاحتفال والترحيب، في الأوساط السياسية والشعبية، وانتهى بعد ثلاث سنوات، بإضرابات متتالية. أمّا النهاية السياسية للرئيس الخوري، فرسمها انقلابان: واحد في دمشق في آذار عام 1949 قام به حسني الزعيم ضد القوتلي، وكان الأول من نوعه، ثمّ تدحرجت الانقلابات العسكرية مذّاك. وآخر في القاهرة في تموز 1952، قام به الضبّاط الأحرار ضد الملك فاروق. وما بين الانقلابين، حاول الخوري استيعاب المعارضة المتصاعدة في الداخل، فقدّم خطة إصلاحية قبل أسابيع قليلة من استقالته، على غرار كلّ خطط الإصلاح في لبنان، لا تخرج إلى النور إلّا عندما تصل البلاد إلى حافّة الهاوية، وقلّما تجد طريقها إلى التنفيذ، أو توقف الكارثة الآتية.
أوّل خطّة رسميّة للإصلاح
أبرز ما جاء في خطة رئيس الجمهورية، وقد تبنّتها حكومة الرئيس سامي الصلح في جلسة 19 آب عام 1952، إجراء إصلاحات مالية وقضائية وإدارية ما زالت في جوهرها مطروحةً بإلحاح بعد سبعين عاماً، ممّا ليس بخارق للعادة، بل ما يقتضيه أيّ حكم رشيد، وهي كما يلي:
– وضع الموازنة العادية للعام المقبل، والموازنات الخاصة الملحقة بها على أسس سليمة، ووفقاً لحاجات البلاد الحقيقية.
– توسيع صلاحيات ديوان المحاسبة لجعله أكثر فعّالية، وإقرار المراقبة المالية الدائمة.
– إصدار قانون الموظفين والملاكات، على أن يتبع ذلك الاستغناء عن الموظفين غير الأكفاء أو الفائضين عن الحاجة، وإحصاء الموظفين المؤقتين والعمال، وحصرهم بالعدد الضروري.
– إعادة تنظيم مجلس القضاء الأعلى لتوفير رقابة فعلية على حسن سير القضاء، وإقرار التفتيش القضائي الدائم.
– تنظيم التفتيش الإداري، وربطه بتشريع يوفّر رقابة فعلية وآلية على الإدارة، وتنظيم مجالس التأديب.
– إعادة النظر في التنظيم الإداري بغية تحقيق اللامركزية (بشارة الخوري، حقائق لبنانية).
أبرز ما جاء في خطة رئيس الجمهورية، وقد تبنّتها حكومة الرئيس سامي الصلح في جلسة 19 آب عام 1952، إجراء إصلاحات مالية وقضائية وإدارية ما زالت في جوهرها مطروحةً بإلحاح بعد سبعين عاماً، ممّا ليس بخارق للعادة، بل ما يقتضيه أيّ حكم رشيد
لم تُنقذ الخطة الولاية الثانية لرئيس الاستقلال الأول، وبقيت غاياتها الرئيسية حبراً على ورق، على الرغم من تنفيذ بعض بنودها في العهود اللاحقة. فالإصلاح كان عنوان السلطة المتهاوية، وهدف المعارضة كان إسقاط رئيس الجمهورية الذي استقال بعد تكليف اللواء فؤاد شهاب تشكيل حكومة عسكرية انتقالية.
الرفاهية الخادعة
لكنّ ما يلفت النظر توصيف رئيس جمعية الاقتصاد اللبناني جبرائيل منسّى في كتابه “في سبيل نهضة اقتصادية لبنانية يساهم فيها لبنان المغترب” عام 1950، للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان. فاللبناني أواخر عام 1949، كان يعيش بسعة ورخاء في بيته. وهو يلبس جيداً، ويأكل جيداً. يرسل أولاده إلى المدارس ويدفع نفقاتها. يرتاد دور اللهو والسينما. و15% من الأسر اللبنانية تقتني الخدم. ويتوافر لدى ثلاثين ألفاً منها، محلّا إقامة، واحد في الساحل، وآخر في المرتفعات للإفادة من المناخ المعتدل صيفاً.
يزداد لبنان غنى. ويحتفظ أهلوه بمستوى عالٍ في معيشتهم. ترتفع البنايات الجديدة بالآلاف في بيروت وطرابلس ومناطق الاصطياف في كلّ مكان. استورد اللبنانيون في السنوات الخمس بعد الاستقلال أكثر من 8 آلاف سيارة، ومعها آلاف البرّادات والراديوات والإنشاءات المنزلية لزيادة الرفاهية.
هذا كلّه ودخْل المزارعين ضئيل بالنسبة إلى دخل أصحاب الحرف والأُجراء. وكلفة المعيشة مرتفعة كثيراً في المدن الكبرى. ويدفع الشعب اللبناني أكثر من 120 مليون ليرة بين رسوم وضرائب، أي أكثر من 30 دولاراً للفرد الواحد، عندما كان السكان مليوناً و250 ألفاً، وهي نسبة لا تعادلها أخرى في بلدان الشرق الأدنى ما عدا إسرائيل. أمّا الضرائب والرسوم فهي بنسبة 85% غير مباشرة وتُفرض على المواد المستهلكة، فكانت ثقيلة الوطأة على الطبقات العاملة.
أمّا الفرق بين الدخل والاستهلاك على المستوى الوطني، فعُوّض من إنفاق الجيوش الأجنبية في لبنان، خلال السنوات الست للحرب العالمية الثانية ما بين عامي 1939 و1945، وقد بلغ ما يقرب من 400 مليون دولار. هذا العنصر الخارجي في تعديل ميزان المدفوعات وتصويب العجز الدائم للميزان التجاري، استمرّ بأسماء وأشكال مختلفة، وتفاقم أكثر فأكثر مع التقلّبات السياسية في العالم العربي، وتفاعلات قضية فلسطين. حتى إنّ الرؤية الاقتصادية في تلك الحقبة تضمّنت، إلى جانب الاعتماد على رساميل المغتربين اللبنانيين، الرهان على تعويضات أملاك اللاجئين الفلسطينيين، التي كان يمكن الحصول عليها بديلاً من العودة إلى فلسطين وفق نصّ القرار الدولي رقم 194 الصادر عام 1948، وعشرات الآلاف منهم كانوا يقيمون في لبنان (انظر “في سبيل نهضة اقتصادية لبنانية يساهم فيها لبنان المغترب“). وإنّ لإصدار قانون السرية المصرفية في لبنان، عام 1956، علاقة مباشرة باجتذاب الرساميل الهاربة من التأميم والمصادرة في بلدان عربية تضطرب وتضجّ بأقدام العسكر.
يزداد لبنان غنى. ويحتفظ أهلوه بمستوى عالٍ في معيشتهم. ترتفع البنايات الجديدة بالآلاف في بيروت وطرابلس ومناطق الاصطياف في كلّ مكان
هل المغتربون هم الحلّ؟
بحسب وزير الشؤون الخارجية والمغتربين فيليب تقلا عام 1950، وبعد رحلة دامت شهرين في البرازيل والأرجنتين حيث تعيش جالية لبنانية كبيرة، كان اللبنانيون في بلاد الاغتراب مستعدّين للمشاركة في مشاريع كبرى، وفي حركة الإنهاض الاقتصادي، لكن بشرط أن تكون المشاريع قد أُشبعت درساً، وبتصاميم محكمة، وباقتراحات خاضعة لدرس دقيق ومجرّد. وكانوا يطالبون بضمانة ثانية بأن تكون داخل لبنان مساهمات حكومية أو فردية. واقترح جبرائيل منسّى ضمانة ثالثة، وهي تأمين الأموال الموظّفة وحمايتها من الإهمال، ومن التجاوزات والاستغلال، ومن الضرائب والرسوم المرهقة وغير العادلة. واقترح أيضاً تشكيل لجنة مراقبة مؤلفة من 3 إلى 5 أفراد يختارهم المغتربون المشاركون في المشاريع الإنمائية، وتأسيس لجنة فنية مختصة تتولّى التعمّق في دراسة المشاريع. وذكر منسّى أنّ البعض تحدّث في أكثر من مناسبة في ذلك الزمن، عن إمكان تأسيس بنك للأشغال يمكن أن يسمّى “البنك اللبناني الأميركي ليمتد”، بعشرين ألف سهم، وكلّ سهم ثمنه 100 دولار، باعتبار أنّ كثيراً من اللبنانيين المغتربين هم في القارة الأميركية، ويكون البنك وسيطاً بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.
إقرأ أيضاً: العهد القوي يضارب بالدولار: والبلد يعيش على أموال المغتربين…
ماذا نقول اليوم، وقد غدرت السلطة ومن معها بأموال المغتربين، فأضاعتها، وحجرت عليها من دون قانون، ونفّذت عليها قيود التحويل حجماً (وضع سقف أعلى للسحب من الرصيد) ونوعاً (الدفع بالليرة حصراً ولو كان حساباً بالدولار)؟
لذا قد تكون استعادة الثقة بالسلطة أولى وأجدر من استعادة الثقة بالنظام المصرفي. واستعادة الأمل بلبنان هي الخطوة الضرورية والكافية إلى حدّ كبير، كي تنهمر الإسهامات الوطنية لإنقاذ لبنان من الزوال.