هكذا يُهرّب الصناعيون المليارات بحجّة التصدير

مدة القراءة 6 د

كما كان متوقّعاً، جاء دور أزمة المُصَدّرين مع المصرف المركزي لتدخل نطاق البحث والمعالجة، بعد أشهر من التغاضي عن الثغرات التي حكمت نموذج علاقة هذه الفئة من المنتجين مع النظام المالي بأسره.

فطوال الفترة الماضية، استفاد المصدِّرون من الدولارات التي وفّرها المصرف المركزي لهم بالسعر المدعوم لاستيراد المواد الأوليّة ولوازم الإنتاج، واستفادوا من تسعير جميع فواتير الكهرباء والمياه والخدمات الأساسيّة محليّاً بالليرة وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، 1500 ليرة، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الأجور محليّاً إذا ما قيست بالدولار الطازج. مع العلم أنّ انخفاض كلفة الخدمات العامّة جاء مدفوعاً أيضاً بالدعم الذي يوفّره المصرف المركزي من احتياطاته لكل جوانب إنفاق الدولة بالعملة الصعبة.

في المقابل، كانت حصيلة بيع الصادرات تستقرّ بالعملة الصعبة “الفريش” في حسابات المصدرين في المصارف الأجنبيّة، ولم يعد منها إلى السوق اللبناني سوى نسبة زهيدة تمثّل حاجات المصدرين التشغيليّة الضئيلة في ظل تطبيق سياسة الدعم الحاليّة. مع العلم أنّ قيمة الصادرات التي نتحدث عنها هنا تجاوزت العام الماضي لغاية نهاية شهر أيلول مستوى 2.6 مليار دولار، أي ما يقارب 3.47 مليار دولار كمعدّل سنوي.

بذلك يمكن القول إنّ حصيلة عمليّة الدعم بالنسبة إلى الكثير من هذه المؤسّسات كانت نقل الدولارات المتوافرة في الاحتياطي إلى حسابات هذه المؤسسات في المصارف الأجنبيّة، بدل أن تمثّل عنصراً دافعاً للنمو في القطاعات الإنتاجيّة. ولعلّ انخفاض قيمة الصادرت بنسبة 6.3% خلال العام الماضي، لأسباب عديدة من بينها تراجع أداء الاقتصادات الأجنبية، كان مجرّد مؤشّر إلى أن دولارات الدعم التي استفاد منها المصدّرون لم يُعَد تدويرها لتمويل نموّ القطاعات الإنتاجيّة، بل استقرّت أرباحها في حسابات المصدرين.

كانت حصيلة بيع الصادرات تستقرّ بالعملة الصعبة “الفريش” في حسابات المصدرين في المصارف الأجنبيّة، ولم يعد منها إلى السوق اللبناني سوى نسبة زهيدة تمثّل حاجات المصدرين التشغيليّة الضئيلة في ظل تطبيق سياسة الدعم الحاليّة

بالتأكيد، لا يمكن لوم المُصدِّرين على اتخاذ هذا النوع من القرارات، التي تصب في خانة ردة الفعل الطبيعيّة على تطورات الوضع الاقتصادي في ظل حالة فوضى أسعار الصرف وانعدام الثقة بالنظام المالي اللبناني، وسعي كل طرف إلى تأمين مصالحه من خلال تخليص ما يمكن تخليصه من سيولة ونقلها إلى خارج المصارف المحليّة.

لكنّ مصرف لبنان وضع نصب عينيه منذ فترة التعامل مع هذه الحالة، خصوصاً أنّ مصادر مصرفيّة تنقل لـ”أساس” أنّ عدداً كبيراً من المؤسسات استفادت من هذه الظروف لتضخّم فواتير المواد الأوليّة المستوردة واعتماداتها تضخّماً مصطنعاً، بهدف الالتفاف على آليات الدعم وتحويل مبالغ إضافيّة إلى الخارج من النظام المصرفي.

لهذا السبب، أرسل مصرف لبنان إلى وزارة الصناعة جملة من الأفكار التي يريد أن يبني عليها لإصدار تعاميم تنظم علاقته بالشركات المصدّرة. ووفقاً لمقترحات مصرف لبنان، ينبغي أن تتعهّد الشركات المصدرة بإيداع قيمة الصادرات خلال 45 يوماً في المصارف اللبنانيّة، باستثناء الحالات حين يتفاهم المصدّر مع عملائه على فترة أطول لدفع ثمن البضائع المبيعة. وينبغي أن يثبت الُمصدّر ذلك لمصرف لبنان عبر إبراز العقود أو الوثائق التي تؤكد ذلك. وفي حال لم يلتزم المُصدّر بهذا التعهّد، يحقّ للمصرف المركزي اتخاذ إجراءات، من بينها إبلاغ الجمارك بالأمر لتجميد رقمه الضريبي بشكل مؤقت ومنعه من تسجيل أيّ بيان استيراد أو تصدير.

بعد إيداع عائدات التصدير في النظام المصرفي اللبناني، سيحقّ للمصدّر سحب نسبة معينة من هذه العائدات نقداً بالعملة الأجنبيّة، على أن تساوي هذه النسبة نسبة الأرباح التي يقدّرها مصرف لبنان لكل قطاع من القطاعات الإنتاجيّة. أما القيمة الباقية من هذه العائدات، فيمكن أن يستخدمها المصدّر لفتح اعتمادات وشراء المواد الأوليّة من الخارج من جديد، أو يمكن سحبها بالليرة بسعر صرف معيّن يفوق سعر المنصّة المعتمد لسحب الودائع المدولرة بالليرة حاليّاً.

بهذه الطريقة، يراهن مصرف لبنان على ضمان استفادة المُصدّر من أرباح عملياته نقداً بالدولار الأميركي، كما يفرض في الوقت نفسه عليه أن يعيد رأس ماله إلى النظام المصرفي المحلي بعد إتمام عمليّة الإنتاج والبيع. علماً أن رأس المال هذا هو القيمة التي أنفقها المصدّر أساساً لشراء المواد الأوليّة وإنتاج الصادرات، بالاستفادة من دعم مصرف لبنان.

أرسل مصرف لبنان إلى وزارة الصناعة جملة من الأفكار التي يريد أن يبني عليها لإصدار تعاميم تنظم علاقته بالشركات المصدّرة

على المدى الأطول، يراهن هذا النموذج على تمويل الاعتمادات الجديدة في المستقبل لشراء المواد الأوليّة من الرأسمال الذي فرض مصرف لبنان إعادته إلى النظام المصرفي، الأمر الذي سيخلق دورة ماليّة بين المُصدّرين والمصارف المحليّة تضمن تمويل عمليات الشراء وعودة السيولة في كل مرّة إلى المصارف.

ينطوي هذا النموذج على العديد من الثغرات، إذ إنّه يسمح مثلاً للمُصدّر بالغش عبر تقليل قيمة الصادرات المصرّح عنها، الأمر الذي سيسمح له بتفادي إعادة جزء من قيمة صادراته إلى النظام المصرفي. ويسمح هذا النموذج بالتلاعب من خلال تضخيم قيمة التحويلات التي تجري لاحقاً لشراء المواد الأوليّة، بهدف تهريب السيولة التي جرى فرض عودتها للنظام المصرفي. أما الثغرة الأبرز فهي أنّ هذا النموذج يشجّع جزءًا من المُصدّرين على أن يبيعوا نسبةً أكبر من منتوجهم بالدولار النقدي محليّاً، ولو بنسبة ربح أٌقل بكثير أو مع حسومات وازنة بالأسعار، لقبض قيمتها نقداً بدل تصديرها، الذي سيجبرهم على إيداع عائدات البيع في المصارف المحلية. هكذا، ستكون نتيجة هذه الإجراءات إحباط عمليات التصدير بدل تشجيعها على المدى الطويل.

إقرأ أيضاً: آخر الفرص لكبح انهيار الليرة… وإلّا

الأكيد حتى اللحظة أن هذه الخطة ما تزال في إطار التحضيرات التي يجريها مصرف لبنان، والتي تنتظر إجابات وتعليقات وزارة الصناعة قبل بتّها واعتمادها تعميماً ملزماً ومفروضاً على الجميع. وتحتاج الخطة إلى مداولات أوسع مع جهات أخرى معنيّة بهذه المسألة، كالجمارك مثلاً، ما سيستهلك وقتاً إضافياً. والمداولات قد تفضي في المحصلة إلى تعديل جوانب كثيرة من الخطة، وفقاً لما قد يظهر خلال دارستها من ثغرات غير محسوبة بعد.

أما الأهم فهو أن هذه الخطة، مثل جميع الإجراءات التي يتم القيام بها في الوقت الحاضر، لا تصبّ إلا في سياق “ترقيع” جوانب الأزمة، ولا تطول معالجة أساسها الذي يتمثّل في مسألتين: تعدّد أسعار الصرف وفوضاها، وتعثّر النظام المصرفي. وطالما لم تُعالَج هذه المسائل في إطار خطة ماليّة شاملة تتبناها وتُجمع عليها السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والنقديّة معاً، فكل إجراء “ترقيعي” سيليه المزيد والمزيد من الإشكاليات التي ستحتاج إلى معالجات جديدة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…