المصارف ترشّق عمليّاتها: إقفال فروع وطرد موظفين

مدة القراءة 6 د

في الربع الأخير من العام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المالي الكبير، كان حجم موجودات القطاع المصرفي اللبناني، يوازي نحو 382% من إجماليّ الناتج المحلي للبلاد.

مثّلت هذه النسبة المرتفعة واحدة من المؤشرات التي كان يتم الحديث عنها، للدلالة على تضخّم حجم القطاع مقارنة بطبيعة الاقتصاد المحلّي وقدرته الإنتاجيّة. لكن في نهاية السنة الماضية، وبعد كل ما أصاب القطاع من مشاكل ناتجة عن الانهيار المالي، كان القطاع المصرفي قد خسر نحو 28 مليار دولار من موجوداته مقارنةً بنهاية العام 2019، ونحو 61.5 مليار دولار من الموجودات مقارنةً ببداية ذلك العام. مع العلم أنّ ما خسره القطاع من موجودات بين بداية 2019 ونهاية 2020، يوازي نحو ربع الموجودات المصرفيّة، وهو انخفاض سريع الوتيرة بجميع المقاييس.

منذ بداية الأزمة، واكبت المصارف هذه الظاهرة بإجراءات تنظيميّة داخليّة للتكيّف مع حالة تحجيم نطاق أعمالها. لكنّ إجراءات إلغاء أو تعليق عمل بعض المديريّات، أو تقليص عدد وحجم الفروع، تسارعت خلال الأسابيع الماضية في معظم المصارف اللبنانيّة، وتحديدًا بعد أن بدأت نتائج أعمال السنة الماضية بالظهور إلى العلن

تتعدد أسباب تقلّص موجودات القطاع، من عمليات سحب الودائع بالليرة اللبنانيّة، إلى سحبها بالشيكات المصرفيّة واستعمالها لسداد القروض، وصولًا إلى توقّف المصارف التام عن منح القروض المصرفيّة وشحّ التحويلات الخارجيّة الواردة. لكنّ النتيجة واحدة: القطاع المصرفي يصغر بشكل مستمر، سواء من ناحية حجم وعدد العمليات، أو من ناحية دوره وحجم الموجودات والودائع والقروض. أما تعميمات مصرف لبنان المتعلّقة بإعادة الرسملة، وتحديدًا الشقّ المرتبط باقتصاص المؤونات من أرباح العام الماضي، فضاعف من حجم هذه الظاهرة، بعد أن اضطرّت المصارف إلى تخصيص جزء واسع من أرباحها، كمؤونات للتعامل مع الخسائر المتوقعة الناتجة عن توقّف الدولة عن سداد سندات اليوروبوند.

منذ بداية الأزمة، واكبت المصارف هذه الظاهرة بإجراءات تنظيميّة داخليّة للتكيّف مع حالة تحجيم نطاق أعمالها. لكنّ إجراءات إلغاء أو تعليق عمل بعض المديريّات، أو تقليص عدد وحجم الفروع، تسارعت خلال الأسابيع الماضية في معظم المصارف اللبنانيّة، وتحديدًا بعد أن بدأت نتائج أعمال السنة الماضية بالظهور إلى العلن. فنتيجة الضغوط الماليّة التي حصلت خلال السنة الماضية، سجّل بنك بيبلوس خسائر صافية بقيمة 61 مليون دولار، نتج معظمها عن المؤونات التي اضطر المصرف إلى تخصيصها، مقابل الخسائر المتوقعة من توظيفاته في سندات اليوروبوند. أما بنك لبنان والمهجر، فسجّل ربحًا هزيلًا بقيمة 2.47 مليون دولار، مقارنة بـ115 مليون دولار خلال العام السابق. مع العلم أنّ نتيجة بنك لبنان والمهجر الأخيرة تشمل أرباح فرعه المصري الذي باعه مؤخرًا، والتي تجاوزت مستوى الـ42.42 مليون دولار، ما يعني أنّ مستقبل أرباح المصرف ستكون على المحك خلال هذه السنة، بعد بيع فرعه المصري.

وكردّة فعل على هذه الأرقام والتطورات، تنوّعت خلال الأسابيع الماضية إجراءات ترشيق المصارف، وتقليص حجم هيكلها التنظيمي. لكنّ المسألة المشتركة بين الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة، كانت اتخاذ قرارات بتعليق عمل بعض المديريّات والدوائر، أو تقليص عديد موظفيها ومستوى نشاطها حتّى أدنى حدود. وقد شملت هذه القرارات الأقسام التي تُعنى في العادة بأنشطة التسليف وتسويق المنتجات المصرفيّة ودراسات السوق، كما جرى تحجيم عدد الموظفين في المديريات التي تعنى بعمليات الاعتمادات المستنديّة التي ترتبط في العادة بأعمال الاستيراد والتصدير.

أمام كل هذه التطورات، يبدو من الواضح سبب توجّس موظفي المصارف من مستقبل عملهم في القطاع، وهو ما دفع اتحاد نقابات موظفي المصارف مؤخرًا لرفع الصوت تجاه عمليات الصرف التعسّفي الإفراديّة التي تقوم بها بعض المصارف

مع العلم أنّ بنك عودة بالتحديد، ذهب باتجاه خطوات ذات طابع استراتيجي، من قبيل شطب رخص “بنك عودة للأعمال”، الذي يُعدّ الذراع الاستثماري للمصرف، و”بنك عودة للخدمات الخاصة”، المعني بتقديم الخدمات المصرفيّة المتخصصة للعملاء الكبار والمليئين. وقد قام المصرف لهذه الغاية، بإخضاع المصرفين لعملية تصفية ذاتيّة، على أن ينتقل ما يتبقى من أصول والتزامات على المصرفين، لبنك عودة نفسه. مع العلم أنّ مصادر من داخل المصرف تؤكّد لـ”أساس” أنّ الهدف الأساسي من هذه العمليات كان خفض الكلفة، وخصوصًا في ظل عدم وجود أيّ جدوى تجاريّة، من تقديم خدمات استثماريّة أو خدمات مصرفيّة متخصصة في ظل الظروف الحاليّة، بالإضافة إلى الاستفادة من صافي رساميل المصرفين، لإعادة رسملة بنك عودة نفسه. مع العلم أنّ “بنك عودة للأعمال”، وحده يمتلك أصولًا بقيمة 307.5 مليون دولار، فيما تتجاوز أصول “بنك عودة للخدمات الخاصة” مستوى الـ1.43 مليار دولار.

في المقابل، لجأت بعض المصارف، منها بنك بيبلوس، إلى وضع خطة تمتد على السنوات الثلاث المقبلة، لإعادة هيكلة فروعها من حيث الانتشار والحجم. وتشمل هذه الخطة تقليص دور بعض الفروع ليقتصر على عدد محدود من الموظفين والخدمات المصرفيّة، في مقابل إلغاء بعض الفروع المجاورة لفروع أخرى. أما أكبر مصرفين من ناحية حجم الموجودات، أي بنك عودة وبنك لبنان والمهجر، فلم يعلنا حتّى اللحظة عن أيّ خطط واسعة لإعادة النظر في انتشار فروعهما. مع العلم أنّ مصارف أخرى أصغر حجمًا اتخذت قرارات متفرقة بإقفال بعض الفروع الصغيرة أو الحديثة، من دون أن يرقى ذلك إلى عمليّة إعادة نظر شاملة في انتشار الفروع، كحالة بنك بيبلوس. ولعلّ السبب الأساسي لتريث المصارف قبل اتخاذ هذه الخطوة بشكل واسع النطاق، يعود لانتظارها نتائج عمليّة إعادة الرسملة، وما سينجم عنها من تحولات في حجم وطبيعة عمليات المصارف، لتتخذ على هذا الأساس القرار المناسب بخصوص حجم وعدد الفروع التي تريد الحفاظ عليها.

إقرأ أيضاً: الصرّافون هزّوا عصا الدولار: وقف الملاحقات.. أو 20 ألفًا وطلوع

أمام كل هذه التطورات، يبدو من الواضح سبب توجّس موظفي المصارف من مستقبل عملهم في القطاع، وهو ما دفع اتحاد نقابات موظفي المصارف مؤخرًا لرفع الصوت تجاه عمليات الصرف التعسّفي الإفراديّة التي تقوم بها بعض المصارف. علمًا أنّ عمليات الصرف الإفراديّة هو نمط لجأت إليه المصارف لصرف الموظفين بشكل تدريجي وبالمفرّق، لتفادي القيام بعمليات صرف كبيرة يمكن أن تدفع الموظفين للمطالبة بشكل جماعي بتعويضات ملائمة. أما رهان الموظفين اليوم، فيتركز على مشروع القانون المكرّر المعجّل، الذي لم يقرّه المجلس النيابي بعد، والذي يحتوي على ضمانات تحمي حقوق الموظفين الذين قد يُصرفون من العمل، كنتيجة لعملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…