اليأس وحده ربما دفع رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، في إطلالته الأخيرة قبل أسابيع، لأن يستحضر بشار الاسد في معرض معركة ما يُسمّى “حقوق المسيحيين”، التي يخوضها في وجه رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري وفي وجه الضمور المسيحي المتنامي الذي يصيب شعبية الصهر والعهد ورئيسه.
روى باسيل لجمهوره المسيحي موقفًا حصل بينه وبين الأسد مضمونه قول الأسد له: “مصلحتنا في سوريا من بعد ما تعلمنا من أخطائنا في لبنان، أنّه لو بقي مسيحيّ واحد في لبنان يجب أن يكون الرئيس وصلاحياته قوية ومصلحتنا في لبنان وسوريا والمنطقة أن يبقى المسيحيون، بدورهم وخصوصياتهم، من دون أن يذوبوا”.
سوريا الأسد هي عاصمة تحالف الأقليات، الذي يعرف باسيل أنّه ما عاد يُطعم خبزًا في لبنان. بدا الرجل يائسًا وهو يحاول أن يستولد في نفوس جمهوره خرافة الحماية التي يجلبها لهم التموضع المسيحي في كنف سوريا وحزب الله، مدركًا أنّ هذا المنطق خرج من وجدان المسيحيين، لا سيما بعد انفجار الرابع من آب.
أصاب الانفجار أكثر ما أصاب المناطق المسيحية، ودمّر بيوتها واقتصادها وقتل وجرح بشرها. وحتى يثبت العكس فإنّ “سوريا الأسد” وحزب الله، يتحملان المسؤولية المعنوية وربما الجنائية عن الإهمال والاستهتار والمخاطرة التي قادتنا إلى ما وصلنا إليه.
أخرج الانفجار منطق تحالف الأقليات من وجدان شريحة مسيحية كبيرة، وأسقط من يد باسيل العنوان الأحبّ إلى قلبه عن حقوق المسيحيين، الذين وجدوا في المأساة التي أصابتهم دليلًا، كانوا بغنًى عنه، للتأكّد من أن لا حماية خاصة للمسيحيين خارج الحماية العامة التي تأتي بها دولة محترمة، مسؤولة، وكفوءة.
سوريا الأسد هي عاصمة تحالف الأقليات، الذي يعرف باسيل أنّه ما عاد يُطعم خبزًا في لبنان. بدا الرجل يائسًا وهو يحاول أن يستولد في نفوس جمهوره خرافة الحماية التي يجلبها لهم التموضع المسيحي في كنف سوريا وحزب الله
فيما كان باسيل يتوسل الأسد ونصرالله لإعادة تأسيس سردية التيار الوطني الحر، عن المظلومية والحماية، ويستفيض في فرز القوى السياسية بين هاتين الخانتين (ظالمون وحماة)، كانت علامات تآكل الشرعية المسيحية التي تصيب الحالة العونية تتقدم المشهد السياسي اللبناني، من مصادر ثلاثة:
1- بكركي:
في مقابل الفجور الباسيلي حول حقوق المسيحيين، وخطاب “الكنتنة” السياسية (من كانتون) والأسفاف في مطلب التحاصص المذهبي، والتشديد ضمنًا على خيار الالتحاق بمحور حارة حريك – دمشق – طهران، كان بطريرك الكنيسة المارونية مار بشارة بطرس الراعي يعلي الصوت عن ضرورة الحياد اللبناني ويصف الدولة بأنّها “محتلّة”.
لم يسبق في تاريخ لبنان أن كان التناقض بهدا الحجم بين الكنيسة المارونية وبين رئيس للجمهورية يحظى بحجم الشعبية السابقة لميشال عون. فالالتحاق الذي يروّج له باسيل كضمانة للمسيحيين، وصفه البطريرك الراعي بـ”الحالة الانقلابية”، جازمًا بأنّه “لا يوجد جيشان أو جيوش في دولة واحدة ولا شعبان في دولة واحدة”.
2- قائد الجيش:
لم يسبق في تاريخ لبنان الحديث أيضًا أن خاطب قائدٌ للجيش الطبقة السياسية بالعلنية والوضوح والمباشرة التي اعتمدها قائد الجيش جوزيف عون. تحدّث الرجل، الذي يحتل أرفع مركز عسكري ماروني داخل النظام اللبناني، بلغة تؤكد على أنّ الجاري في البلاد هو انقلاب بالفعل، ملتقيًا مع تحذير البطريرك بقوله: إنّ “الجيش يتعرض لحملات إعلامية وسياسية تهدف إلى جعله مطواعًا، لكن هذا لن يحدث أبدًا”.
ليست خافية الجهة المنافسة للجيش والطامحة لتطويعه. وفي مقابل المحور الذي يدفع باسيل إلى التموضع فيه بحجّة تأمين حماية للمسيحيين، كان قائد الجيش واضحًا في التأكيد على الأهمية الاستراتيجية للمساعدات التي يتلقّاها الجيش، وعلى أنّه لولاها “لكان الوضع أسوأ بكثير”. وهنا ليس خافيًا أنّ مصادر هذه المساعدات المتعدّدة تقع خارج دول محور باسيل، بل على النقيض منه تمامًا.
صحيح أنّ العماد جوزيف عون تحدّث الى عموم الطبقة السياسية، بيد أنّ كلامه، وقد جاء بعد اجتماع أمني في بعبدا، بدا في العمق اعتراضًا على التوصيف السياسي للأزمة من وجهة نظر رئيس الجمهورية، كما حمل شيئًا من التمرّد على استسهال دفع الجيش نحو التصادم مع الناس تحت عنوان حفظ الأمن!
لم يسبق في تاريخ لبنان أن كان التناقض بهدا الحجم بين الكنيسة المارونية وبين رئيس للجمهورية يحظى بحجم الشعبية السابقة لميشال عون
3- الفاتيكان:
كان يمكن لزيارة بابا الفاتيكان للعراق أن تكون مناسبة للنفخ في المشروعية السياسية المسيحية لجبران باسيل، رئيس أكبر حزب مسيحي في المشرق العربي، كما يحب أن يقدّم نفسه. لكنّ المتداول أنّ حكومة بغداد التي استضافت البابا الآتي إلى العراق للتأكيد على أصالة واستراتيجية الحضور المسيحي في النسيج الاجتماعي المشرقي، لم تتحمّس لمشاركة مميزة لباسيل، في ما بدا وكأنّه نأيٌ عراقيٌّ بالنفس، عن الإسفاف السياسي في توظيف العنوان المسيحي في معارك ليس للعراق شأنٌ فيها.
ولو كانت قناعة البابا أنّ الخطاب المسيحي، لأكبر حزب مسيحي في المشرق، يندرج ضمن رؤية الكنيسة ودور المسيحيين ومواقعهم في دولهم ومجتمعاتهم، لأمكن معالجة تحفّظات الحكومة العراقية ودعوة باسيل، أو لخَصّ البابا، رئيس الجمهورية اللبنانية، وهو في العراق، باتصال يؤكّد على المعنى الاستراتيجي للرئيس المسيحي العربيّ الوحيد في المنطقة..
إقرأ أيضاً: ميشال عون استبدل “حقوق المسيحيين” بـ”السلطان” باسيل..
في الإشارات الثلاث يبدو “الحزب المسيحي الأكبر في المشرق”، مطعونًا في الصفة التمثيلية لما يدّعي أنّه يمثّل. فهو على قلّة وئام مع الكنيسة وقائد الجيش (وحاكم مصرف لبنان)، وكلّها مواقع مارونية رئيسية في النظام، باتت تعتبر بطرق مختلفة ان سلوك العهد وخطاب الصهر المدلل لا ينطويان على ما يفيد مصالح المسيحيين.
فأن لا يرى كل هؤلاء ما يراه الأسد ونصرالله في شخص باسيل وسياسته، هنا كلّ الحكاية. باسيل ذاهب إلى الحجّ في دمشق الأسد، تحت عنوان “حقوق المسيحيين”، والمسيحيون راجعون من “تحالف الأقليات”، إلى وطن جريح باتت عاصمته الموقتة “شرفة بكركي”.