ألكسندر سودرهولم Alexander Soderholm*
إيران هي أكثر دولة في العالم تعرّضًا للعقوبات. ومع ذلك، لا توجد سوى معرفة منهجيّة قليلة عن الآثار القصيرة والمتوسطة الأجل للعقوبات، في أنماط نمو الاقتصاد الإيراني، وفي الرفاه العام للشعب الإيراني، سواء في المدن أو المناطق الريفية، وفي الديناميات المجتمعيّة، والمجال المدني، وبيئة البلاد. وغالبًا ما كان يبرز الاعتماد على عدد قليل من المقاييس، عندما تشتدّ العقوبات: من مثل مدى انخفاض قيمة العملة، ونِسب التضخم، والركود، والتي تعقبها بعد ذلك زيادات في البِطالة والفقر. لكنّ الصورة الأكثر شمولًا تضيع في النشاز حول مزايا السياسة.
وهذه هي الفجوة التي تسدها “سايس” SAIS بمشروعها “إيران تحت العقوبات”، وهو عبارة عن نظرة متعمّقة في كلّ الزوايا حول تداعيات العقوبات على إيران. ويوفّر هذا البحث الأول من نوعه، دراسة حالة مفيدة بشأن استخدام العقوبات كأداة لأسلوب حكم. SAIS ، أو معهد بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة Paul H. Nitze School of Advanced International Studies، فرع من جامعة جون هوبكينز ومقرّها واشنطن. ويتربّع هذا المعهد على رأس معاهد العلاقات الدولية في العالم.
تصدر التقارير تِباعًا ما بين خريف 2020 وربيع 2021. وفي ما يلي موجز التقرير الثاني، والذي هو بعنوان: العقوبات والمخدّرات غير المشروعة في إيران Sanctions and Illicit Drugs in Iran.
يتتبّع هذا التقرير نتائج العقوبات الأميركية الأحادية الجانب في مجال المخدرات غير المشروعة في إيران. وفيه، أنّ العزلة الدولية، والانكماش الاقتصادي، وانهيار الريال الإيراني، فاقمت أضرار المخدرات غير المشروعة، بسبب تقييد قدرة الدولة على التصدّي لهذا الخطر. ويركّز التقرير على ثلاثة مجالات محدّدة هي: العلاقات الدبلوماسية، والبرامج التعاونية المتعدّدة الأطراف، والتهريب والإمداد، والضرر المتصل بتعاطي المخدرات والخدمات المقدّمة للمُتعاطين. ومن خلال العمل الميداني النوعي – أي من خلال المقابلات شبه المنظّمة مع العلماء، والعاملين في هذا المجال، والنخب السياسية ومتعاطي المخدرات، فضلًا عن الملاحظات الميدانية، وتحليل البيانات الصادرة من المسؤولين في وسائل الإعلام الإيرانية – تلاحظ الورقة البحثيّة الخطوط العريضة للتغيّرات التي حدثت مؤخرًا في المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه. وتبيّن الورقة أنّ العقوبات قد فاقمت الآثار السلبية المترتّبة على انتشار المخدرات غير المشروعة، وسيظلّ أثرها ضارًّا في هذا المجال مع زيادة حجم الضرر الناتج عن انتشار المخدرات من ناحيتَيْ العرض والطلب، وإنهاك العلماء والعاملين الإيرانيين، وتقويض إمكان التعاون الدولي مع إيران بشأن قضايا المخدرات.
ففي إيران أحد أعلى معدّلات انتشار تعاطي المخدرات غير المشروعة بين البالغين في العالم. وهي أيضًا بلد رئيسي لشحن الموادّ الأفيونية، ومؤخرًا الميثامفيتامين من أفغانستان، توصّلًا من طريق البلقان من جهة، ومن خلال الطريق الجنوبي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا، وجنوب شرقها من جهة أخرى. وفي 2019، أكدت الحكومة الإيرانية أنّ كلفة الأدوية لمعالجة آثار المخدرات غير المشروعة كما لمكافحة انتشارها بوساطة الأجهزة الأمنية والقضائية، بلغت 167 تريليون تومان سنويًّا – أي ما يعادل 47% من الميزانية العامة أو 11% من الناتج المحلي الإجمالي. ومنذ غزو الولايات المتحدة عام 2001 لأفغانستان، توسّع إنتاج المخدرات الأفغانية بسرعة، ما بات يوفّر سبل العيش للأسر الريفية على طول سلسلة الإمداد غير المشروعة بالمخدرات. والمحصّلة أنّ إيران وباكستان كانتا مسؤولتين عن 90% من مضبوطات الأفيون العالمية، بين عامي 2002 و2015.
يتتبّع هذا التقرير نتائج العقوبات الأميركية الأحادية الجانب في مجال المخدرات غير المشروعة في إيران. وفيه، أنّ العزلة الدولية، والانكماش الاقتصادي، وانهيار الريال الإيراني، فاقمت أضرار المخدرات غير المشروعة، بسبب تقييد قدرة الدولة على التصدّي لهذا الخطر
تدفّق المخدرات لا يؤثر في المتعاطين لها فقط، أو في المورّدين، ولكنه يؤثر أيضًا في المجتمعات على نطاق أوسع. وفي هذا المجال، أكد نائب المدعي العام الإيراني سعيد عمراني، أنّ “المخدرات تؤثر بشكل مباشر في أكثر من 20 مليون شخص في البلاد”، ما ينعكس على العلاقات الأسرية، وتزايد حالات الطلاق، وإساءة معاملة الأطفال، وتفاقم مشكلات اجتماعية أخرى. ففي كانون الثاني عام 2019، ذكر رئيس منظمة السجون، أنّ هناك 240 ألف سجين، منهم 93600 جريمة متصلة بالمخدرات. ووفقًا للإحصاءات الرسمية، سُجن نحو 4.8 ملايين فرد تحت بند جرائم المخدرات بين عامي 1979 و2017.
إيران والأفيون
وعلى مدى شطر كبير من القرن العشرين، كان الأفيون يُزرع ويُنتج في إيران، وكانت الحكومة تجمع إيرادات كبيرة عن طريق فرض ضرائب على التجارة به. وفي عام 1924، كان 8.9% من مجموع الإيرادات الحكومية يأتي من مثل هذه الضرائب، وارتفعت إلى ما يقرب من 20% سنويًّا ما بين عامي 1951 و1954. وأصبح المسؤولون الإيرانيون مشاركين نشطين في مجالات السياسات العامة المتعلّقة بالمخدرات الدولية، بدءًا من الاتفاقية الدولية للأفيون عام 1909 في شنغهاي. وعلى مدى النصف الأول من القرن العشرين، كان هدف المسؤولين الإيرانيين في البداية، حماية حقّ البلاد في مواصلة الإنتاج المحلي في مواجهة تحرّكات بعض الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، والتي كانت تبغي السيطرة على الإمدادات والحدّ منها على الصعيد العالمي. وبينما كان التركيز الرئيسي للدولة في وقت مبكّر في القرن الماضي، على زيادة الإيرادات من تجارة المخدرات، انتقل الاهتمام الرسمي نحو معالجة الآثار الضارة لتعاطيها بحلول منتصف القرن، مع ارتفاع نسبة تعاطي المخدرات بين الإيرانيين.
وقبل ثورة عام 1979، قضت سياسات الدولة أيام الشاه، بتزويد متعاطي المخدرات من كبار السن والمرضى المدمنين بكوبونات، ما كان يسمح بشراء الأفيون من الدولة بسعر ثابت، وإزالة السموم لغير المؤهلين للحصول على هذه الكوبونات. إضافة إلى إنشاء برنامج لتوفير دواء “الميثادون” Methadone لعلاج اضطرابات الأفيون في شيراز عام 1974. بعد 1979، تحوّلت السياسة الرسمية إلى الحدّ الصارم للطلب والعرض، وتوقفت برامج العلاج. وبعد الثورة مباشرةً، أصدرت المحكمة الثورية برئاسة صادق خلخالي، أحكامًا صارمة بإعدام 582 متهمًا بتجارة المخدرات.
على مدى شطر كبير من القرن العشرين، كان الأفيون يُزرع ويُنتج في إيران، وكانت الحكومة تجمع إيرادات كبيرة عن طريق فرض ضرائب على التجارة به
تبدّل هذا النهج العقابي في عام 1980، وتحوّل تدريجيًّا إلى العلاج من آثار المخدرات، والحدّ من الضرر الناتج منها في أواخر التسعينيات، وهذا عقب الظواهر المتزامنة التي تسبّبت بأزمة شرعية داخل جهاز الدولة، وخصوصًا ارتفاع عوارض تعاطي المخدرات بين قدامى المحاربين في حرب العراق، والانتشار المتسارع لفيروس نقص المناعة البشرية، بسبب التشارك بإبرة الحقن بين المدمنين، لا سيما في السجون خلال تلك الحقبة.
المرحلة الذهبية في مكافحة المخدرات في إيران والحدّ من أضرارها، كانت أيام ولاية الرئيس محمد خاتمي بين عامي 1997 و2005، وذلك عن طريق التعاون الدولي وتبادل الخبرات، وعدم تجريم إجراءات الحدّ من الضرر في التعامل مع المدمنين، والتي لا تفترض القضاء على الإدمان، بل توفير الوسائل الآمنة لتفادي أخطاره. وعندما تولى الرئاسة بعده، محمود أحمدي نجاد بين عامي 2005 و2013، قطع علاقات التعاون الدولية الجديدة بشأن مكافحة المخدرات، وأعاد العمل على خفض المعروض من الموادّ المخدرة، وفرض عقوبة الإعدام على جرائم المخدرات. أما علاج المدمنين والحدّ من ضرر التعاطي، فقد سمح به، ولكن بشكل انتقائي. فالمنظمات غير الحكومية القريبة من السلطة، استمرت بعملها، والمنظمات الأخرى مُنعت من العمل، أو واجهت صعوبات.
آثار العقوبات الأميركية بعد 2018
إنّ العقوبات والعزلة والبيئة المحلية العدائية بسبب العقوبات، لا سيما التي أعادت فرضها الإدارة الأميركية في عهد دونالد ترامب عقب الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، قد منعت التعاون الفعّال مع إيران بشأن المسائل المتعلّقة بالمخدرات، وربما التعامل كذلك مع الآثار السلبية في مجال علاج تعاطي المخدرات والحدّ من ضرره. فالعقوبات المفروضة تجعل من الصعب للغاية على الإيرانيين، العمل مع زملائهم الأجانب في هذا الحقل، وتقوّض الجهود المبذولة من أولئك الذين يسعَوْن للتأثير في مقاربة إنسانية ونهج صحي لمواجهة تعاطي المخدرات. في الوقت نفسه، اختلقت الحكومة الإيرانية بيئة معادية بالنسبة لأولئك الإيرانيين الذين يرغبون في التعاون مع المؤسسات والعلماء في الغرب، من خلال طمس حدود ما هو مقبول التعامل به من عدمه.
إقرأ أيضاً: ما الذي حدث في بيروت: مستودع ذخيرة فجّر نيترات الأمونيوم
أما الانهيار الاقتصادي بسبب العقوبات الأميركية، فقد أثّر بشكل كبير في أسواق المخدرات الإيرانية، مع ارتفاع أسعار معظم المواد الاستهلاكية. ويؤكد العاملون في مجال مكافحة المخدرات، ظهور موجة متجدّدة من تعاطي المواد المخدرة عن طريق الحقن في الهواء الطلق، في جميع أنحاء المناطق الحضرية في إيران. وفي الوقت نفسه، أسهم انخفاض العملة على الأرجح في نزوح إنتاج مادة الميثامفيتامين إلى أفغانستان، ما يؤدي بدوره إلى تدفق الميثامفيتامين الأفغاني الرخيص إلى إيران، الذي سيكون له عواقب كبيرة على الصحة العامة، وعلى نظام العدالة الجنائية. وكانت عواقب الانهيار الاقتصادي مدمرة بالفعل على متعاطي المخدرات من الضعفاء والمهمّشين، وسوف يؤدي على الأرجح إلى انتشار الاضطرابات المتعلّقة به. وما لم يجرِ تعزيز علاج المدمنين والحدّ من أضرار الإدمان، مع تقديم الدعم الدولي لإيران، وخصوصًا إلى المنظمات الإيرانية غير الحكومية العاملة في هذا المجال، فإنّ أضرار التعاطي ستتفاقم.
*مستشار مستقل، وعامل في مجال السياسات الدولية المتعلّقة بالمخدرات لسنوات عدة. ترتبط أبحاثه بالمخدرات، وسبل العيش، والنمو في إيران.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا