الديبلوماسية السعودية إن حكت: شروط… وعتب على الحلفاء

مدة القراءة 10 د

لم يعتدِ اللبنانيون والعرب من المملكة العربية السعودية على سياسة إطلاق المواقف. كل العرب يُجمعون على أنّ السعودية تعتمد منطق “الديبلوماسية المستدامة”. وهي تنطلق من منهج عقلاني في مقاربة الملفات السياسية وكل التطورات المرتبطة بها. لم يصدر يوم موقف سياسي عنيف عن مسؤول سعودي، ولا يمكن الإتيان بمواقف ذات طابع انفعالي. يمكن للبنان أن يكون أحد أبرز الأمثلة، على الديبلوماسية المستدامة غير الخاضعة لمنطق الانفعال. يسعى كثر في لبنان، إلى الحصول على موقف سعودي واضح حول تقييم الأوضاع، فتخرج اتهامات كثيرة أو محاولات استفزاز لدفع المملكة العربية السعودية إلى اتّخاذ موقف تعليقًا، بهدف معرفة وجهة مواقفها، لكنّ ذلك لا ينجح.

تقاسي السعودية ممّا يعانيه لبنان. الديبلوماسية السعودية إن حكَت، فتعبّر عن وجع وألم. وفي توصيفها الواقع اللبناني تعتبر أنّ “أسوأ ما يعانيه اللبنانيون، هو وجود طبقة سياسية تبني مواقفها على أوهام، بمعنى أوضح أنّ طرفًا سياسيًّا يأخذ موقفًا معيّنًا، وهو في الأساس موقف توهّمي لتحميل المسؤولية إلى طرف آخر، يتم تسريب هذا الموقف في وسائل إعلامية، ويتم تكراره ليصبح وكأنه حقيقة ثابتة، فتعمل القوى السياسية الأخرى على تلقّف الأمر والتعاطي معه وكأنه هو الحقيقة، عندها يلجأ الطرف الذي عمل على تسريب الخبر إلى اتخاذ قرارات بناءً على الواقع الذي نتج عن التسريبة الأولى، وهنا تكون الدورة كلها خاطئة من البداية إلى النهاية”. وهذا الأسلوب هو الذي دفع لبنان إلى مثل هذا الانهيار.

هو توصيف تتفق معه جهات دوليّة وعربية، خصوصًا من قِبل ديبلوماسيين ودول واكبوا المبادرة الفرنسية وكيفية التعاطي اللبناني معها. بناءً على التغيّر النوعي في الرؤى والمقاربات السياسية اللبنانية، أصبحت السعودية بحاجة إلى تقييم مواقف الحلفاء قبل الخصوم في لبنان، وهو مؤشر على تغيير طبيعة السياسة اللبنانية. وليست مقاربة المملكة للبنان مقاربة سياسية سطحية أو بسيطة، هناك متابعة حثيثة للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

تجمع الديبلوماسية السعودية بين القواعد البروتوكولية، وبين مخزون فكري وفلسفي، في مقاربة أيّ ملف من الملفات، لا سيما بالنظر إلى الإحباط اللبناني العام، والذي أصبح عنوانًا للوعي الجمعي في لبنان. تعتمد الديبلوماسية السعودية على فلسفة الترميز في مقاربة الملفات وإطلاق المواقف، لتوصيف الواقع اللبناني. ولا بد من الاستعانة بأحد أبرز الفلاسفة الأميركيين الذين درسوا حركات الجماهير وطبائع المجتمعات، إيريك هوفر، الذي يقول إنّ  “كلّ الدعاة والمبشرين ورجال المخابرات في العالم، يصطادون من بحيرة واحدة هي بحيرة الإحباط في المجتمع”.

تقاسي السعودية ممّا يعانيه لبنان. الديبلوماسية السعودية إن حكَت، فتعبّر عن وجع وألم. وفي توصيفها الواقع اللبناني تعتبر أنّ أسوأ ما يعانيه اللبنانيون، هو وجود طبقة سياسية تبني مواقفها على أوهام

السعودية لم ولن تتخلّى عن لبنان. هذا موقف من الثوابت، لكنّ الأهم أن يعود لبنان إلى نفسه، باستعادة توازنه الداخلي والخارجي. والمملكة كانت حاضرة في كل مؤتمرات الدعم الدولية، لكن هناك جهات تحرص دومًا على القول إنّ السعودية أدارت ظهرها للبنان، وهذا غير صحيح إنّما لبنان هو الذي تغرّب عن نفسه. هي لا تزال في مكانها، ومتى يعود، ستكون حاضرةً وموجودة.

لا يمكن أن ينكفئ دور السعودية، فيما تم توقيع أضخم 22 اتفاقية اقتصادية واستثمارية بتاريخ 100 عام من عمر لبنان، لكنّ هذه الاتفاقات لم تطبّق بسبب عدم وجود موافقة لبنانية عليها، وبسبب تغليب أهواء حزب الله والعونيين.

في الكلام الذي يتناول السعودية ومواقفها تجاه لبنان، لا تأتي أيّ ردود على لسان المسؤولين السعوديين. هناك توجيه واضح بعدم التعليق على مثل هذه الهجومات والاستدراجات، فلدى السعودية رؤية 2030، ولا تحبّ النظر إلى الوراء، ولا يمكن الاستماع إلى شتائم. فمن يريد أن يلتحق بهذه المشاريع… أهلًا وسهلًا به. وعدم الالتحاق بهذه المشاريع لا يضرّ السعودية، إنما سيضرّ المتخلّفين عنها. فالمملكة لا تخسر شيئًا إذا امتنع لبنان عن المشاركة، إنما هو الذي يخسر ويعيش أسوأ أزماته الوجودية.

إقرأ أيضاً: ماذا طلب الحريري من قطر؟ ومن “زوّر” تصريح ظريف؟

ليس للسعودية أيّ شروط على لبنان أو غيره. مساعداتها ترتبط بموقف من المجتمع الدولي، وهي تتعلق بالإصلاحات، خصوصًا أنّ شماعة مظلومية لبنان قد تعرّت. ولبنان قد عرّى نفسه عربيًّا ودوليًّا، وخرج عن كل المواثيق والمعاهدات الدولية. ومدخله الوحيد إلى الحلّ يكون بالإصلاحات وباستعادة التوازن.

والإصلاح المطلوب دوليًّا أمر معروف وبديهي، وهو يتألّف من الآتي:

1 – محاربة الفساد.

2 – وضع الخطط الاقتصادية والالتزام بتطبيقها.

3 – التدقيق المالي والجنائي في كلّ المؤسسات.

لكن سعوديًّا هناك مطالب أخرى يمكن تسميتها بـ”سياسات ضامنة”، منها:

1 – إقرار الاستراتيجية الدفاعية.

2 – مناقشة السلوك الإقليمي العسكري لحزب الله في سوريا، والعراق، واليمن، وبعض الخلايا في ليبيا.

3 – الوصول إلى معالجة حقيقية وجِدّية لسلوك حزب الله الذي يهدّد الأمن القومي العربي.

4 – تطبيق سياسة النأي بالنفس. وهي مبدأ لبناني أقره اللبنانيون بمختلف توجهاتهم وخصوصًا  في إعلان بعبدا، لكنّهم هم الذين خرجوا منه وأقلعوا عنه.

5- تأكيد الإلتزام بالإجماع العربي.

6 – الالتزام بالقرارات الدولية وتطبيقها، وهي تشمل سلاح حزب الله.

7 – الالتزام بالمواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية.

8 – ألا يكون في لبنان منصّة حكومية تنطلق منها سياسات عدائية ضد المجتمعَيْن العربي والدولي.

لا يمكن أن ينكفئ دور السعودية، فيما تم توقيع أضخم 22 اتفاقية اقتصادية واستثمارية بتاريخ 100 عام من عمر لبنان، لكنّ هذه الاتفاقات لم تطبّق بسبب عدم وجود موافقة لبنانية عليها، وبسبب تغليب أهواء حزب الله والعونيين

أيّ حلّ للأزمة اللبنانية يجب أن ينطلق من هذه الثوابت، ومن دونها سيبقى لبنان معزولًا عن نفسه وعن محيطه، ولن يكون هناك أيّ استعداد لتقديم المساعدات العربية والدولية للبنان. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على عملية تشكيل الحكومة، التي يجب ألا تكون حكومة لمواكبة الاستحقاقات الانتخابية، بل حكومة إصلاح حقيقي. أما ما يجري اليوم فهو حكومة محاصصة سياسية.

المطلب الحقيقي لإنقاذ لبنان هو استعادة التوازن، الذي يبدو منعدمًا حتى على صعيد العلاقات بين الحلفاء التقليديين للمملكة. وبما أنّ الواقع كذلك، فلا يمكن للسعودية القيام بأيّ خطوة، على قاعدة “لا يصلح الله ما بقوم حتى يصلحوا ما بأنفسهم”. كذلك لا يمكن انتظار الإصلاح طالما أنّ الصراع لا يزال يدور على منطق الأثلاث الضامنة والمعطلة، وهنا كان أساس مشكلة لبنان مع العرب والسعودية على رأسهم، لأنّ دخول حزب الله بأثلاث معطلة إلى الحكومة، وإطلاقه مواقف سياسية معادية وتدعو إلى محاربة المملكة، يندرج في خانة “إعلان الحرب” من قِبل دولة على دولة أخرى. خصوصًا أنّ هذا الطرف مشارك بأكثرية في الحكومة، التي استخدمت كمنصة لإعلان الحرب، بينما رئيسا الجمهورية والحكومة لم يصدرا أيّ نفي وصمتا على موقف حزب الله هذا.

هذا المنطق لا يمكن أن يستمر، وحتى عندما جاءت المبادرة الفرنسية، فإنّ حزب الله هو من عمل على إفشالها، لا سيما وأنها لا تتعلق فقط بتشكيل حكومة، إنما تعيد البحث في كل السياسة اللبنانية ومندرجاتها.

تعود المشكلة إلى إخلال لبنان بتعهداته والتزاماته. يوم زار رئيس الجمهورية ميشال عون المملكة العربية السعودية في أول زيارة خارجية له، كان هناك استبشار بالخير، وكانت السعودية رحبة الصدر وأبدت كل الاستعداد لتقديم المساعدات، وهذا ما تُرجم لاحقًا بالكثير من برامج التعاون، التي تخلّف لبنان عن الالتزام بها.

المطلب الحقيقي لإنقاذ لبنان هو استعادة التوازن، الذي يبدو منعدمًا حتى على صعيد العلاقات بين الحلفاء التقليديين للمملكة. وبما أنّ الواقع كذلك، فلا يمكن للسعودية القيام بأيّ خطوة

وخلال زيارته قدّم عون تعهدات بأنّ لبنان لن يكون منطلقًا لسياسات عدائية ضدّ السعودية، إلا أنّ الواقع كان مختلفًا كليًّا. فقد سقط على السعودية 352 صاروخًا بالستيًّا إيرانيّ الصنع، بينما لم يصدر أيّ موقف لبناني رسمي مندّد بهذه الاعتداءات، ولم يندّد لبنان باستهداف منشآت النفط السعودية وشركة آرامكو.  منذ فترة قصيرة فقط، بدأت الخارجية اللبنانية بإطلاق مواقف منددة للاعتداءات على السعودية، لكنّ الأمر قد تأخر كثيرًا، والتنديدات لا قيمة لها: Game Over.

تتابع المملكة عن كثب الواقع اللبناني، وبنتيجة لدراسات ميدانية واجتماعية واستطلاعية، كل الأرقام تشير إلى أنّ الناس من كل الانتماءات والتوجهات الحزبية والطائفية، تعلن خجلها من الانتماءات السياسية السابقة، وتعبّر عن الندم… هذا يقود إلى رهان على حصول تغيير في الاستحقاقات المقبلة. ولم يعد من بارقة أمل إلا بالرهان على مزاج الناخب من كل الطوائف، والذي سيكون أمام تغيير كبير، بفعل لا مسؤولية القوى السياسية.

 تبدو النظرة السعودية متفائلة في لبنان، على الرغم من كل الواقع السوداوي، تستند النظرة إلى قراءة كبير فلاسفة الحداثة هيغل، الذي وصف التجمّعات اللبنانية بأنّ تركبيتها منحت اللبنانيين الذكاء وقدرة التعامل، حتّى استطاعوا أن يتعاملوا مع الأمواج المتلاطِمة. وتُستكمل القراءة في توصيف لكمال الصليبي الذي كان أهم من شخّص مفاصل التطور التاريخي في لبنان، وقال إنّ كل من استقوى على اللبنانيين بطرف خارجي مصيره إلى مزبلة التاريخ. وهنا تستند الديبلوماسية السعودية في توصيفها إلى طبيعة شجرة الأرز التي تعمّر لمئات السنين. وهذه من طبيعة وطبائع لبنان، من أسباب تعمير الأرزة، هو أنها قادرة على لفظ أيّ جسم غريب، وعندما تخترقها جرثومة معينة. إذ يعمل جسم الأرزة على التكتل حولها، وتغذيتها وتقويتها من خلال تنميتها فتُخرجها من داخلها إلى الخارج، من خلال أحد الأغصان أو الأفرع التي تنبت، وما إن تخرج حتى يسقط الغصن. في هذا أهم التوصيفات إلى عدم ارتضاء المجتمع اللبناني كلّ ما هو غريب عنه وعن طبائعه مهما بلغ من قوّة. فما هو حزب الله بالنسبة إلى لبنان، أمام العثمانيين والبيزنطيين وغيرهم؟

هنا أيضًا لا بد من الاستعانة بالإمام الأوزاعي الذي يقول:” من ظنّ أنّ الباطل سينتصر على الحقّ، فقد أساء الظن بالخالق”.

إقرأ أيضاً: قادة السُنّة: انهيار سياسي.. وانهزامٌ نفسيّ

مشكلة اللبنانيين بالنسبة إلى السعودية أنهم أساؤوا إلى دولتهم وشعبهم، وبالتالي أساؤوا إلى حكمهم، وهنا يقصدون الحلفاء قبل الخصوم، من دون إخفاء العتب على الرئيس سعد الحريري، الذي واجه صعوبات كثيرة بسبب سياسته وممارساته، والتي ستكون نتيجتها خروج مئة بهاء الحريري في وجهه، لا بهاء حريري واحد. في ذلك أيضًا استعانة بأحد أشهر الشعراء العرب “ابن زريق البغداد” الذي يقول: “رزقت ملكًا لم أُحسن سياسته.. وكل من لا يسوس الحكم يخلعه.” وأيضًا لا بد من الاستعانة بالإمام الغزالي الذي يقول: “أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكّر وإن ضلّ، لأنّه سيعود إلى الحقّ، وإنما أخشى على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى. لأنّه في مهبّ أيّ فتنة سيكون أوّل من يشعل الدنيا”.

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…