البلد يتحلّل.
يتحلّل بحيث يبدو أيّ تحليل للأحداث فيه، إما مشاركة في فعل التحلّل، وإما حالة إنكار أمام هذا الفعل.
إلّا أنّ سِمة التحلّل المتمادي هنا، أنه تحلّل للمجموع لا تنتج عنه أجزاء متماسكة، ويمتنع أن يستقرّ إذّاك على أيّ شكل، أو صورة.
لا تنتج عن تحلّل المجموع أقسام وصور إلّا في الوهم.
من هنا عدم دقة الحديث عن “اصطفافات” و”شد عصب” وما شاكل من تعابير.
لأنّ ما يتحلّل هو العصب نفسه. ليس فقط النخاع الشوكي المركزي، بل العصب ككلّ يتلاشى.
نعيش إجمالًا بين انهيارين مستدامين إذًا. أحدهما يؤنس الثاني، انهيار يحلو في عين الآخر. من جهة، انهيار تجربة لبنان المقسّم خلال الحرب الماضية، ومن جهة ثانية، تجربة لبنان الموحد، إذ تتحول إلى حالة مزمنة، انهيار بلا أفق، يمكن أن تستهلك حياة جيل أو جيلَيْن، وأن يكون أثرها التهجيريّ لنسبة كبيرة من اللبنانيين
الأجزاء نفسها التي ينحو التحلّل المجتمعِيّ والكِياني لظهورها، لا تكاد تشرئبّ بشكل نافر حتى تعود فتضمر، كما لو أنها عظام في وادي الموتى في سفر حزقيال بالعهد القديم. تحديدًا لحظة توقّف رؤيا حزقيال عند لحظة ارتعاش العظام، بعد أن بدأت تدبّ فيها الحياة، وقبل أن ينفخ فيها الروح. لعلنا في هكذا لحظة، بشكل أو بآخر. “وَبَيْنَمَا أَنَا أَتنَبَّأُ، كَانَ صَوْتٌ، وَإِذَا رَعْشٌ، فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ. ونَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا، وبُسِطَ الْجِلْدُ علَيْهَا مِنْ فَوْقُ، وَلَيْسَ فِيهَا رُوحٌ” (حزقيال، 37، 7 – 8).
لبنان الموحد هو اللّبنان المنهار كما نراه وكما سنراه ينهار بعدُ أكثر.
بيد أنّ لبنان المنقسم انهار هو الآخر في الحرب الماضية، عنينا به أجزاءً متماسكة على جانبي التماسّ.
نعيش إجمالًا بين انهيارَيْن مستدامَيْن إذًا. أحدهما يؤنس الثاني، انهيار يحلو في عين الآخر.
من جهة، انهيار تجربة لبنان المقسّم خلال الحرب الماضية، ومن جهة ثانية، تجربة لبنان الموحد، إذ تتحول إلى حالة مزمنة، انهيار بلا أفق، يمكن أن تستهلك حياة جيل أو جيلَيْن، وأن يكون أثرها التهجيريّ لنسبة كبيرة من اللبنانيين، هو حصيلتها العميقة، بكل ما يعني ذلك بالنسبة إلى بلد لا يمكن قراءته من دون حسابات الديموغرافيا، الفعلية والمتخيّلة، بين مجموعاته، وربما حتى “مجتمعاته”، مع تمييز تلك عن حسابات الجغرافيا السكّانية، أي خريطة انتشار وتفاوت انتشار هذه المجموعات بين المناطق… لا التقسيم متاح، ولا التوحّد متاح، إلّا بالشكل الحالي للبنان الموحد، أي بالشكل الذي سيصير غدًا وضعه أسوأ من اليوم، حتمًا.
إذًا؟ حلّ وسط بين تجربتين انهياريّتين مثلًا؟ غير واضح.
غير واضح.. غير أننا في لعبة تدور في ملعب غير مرسّمة تمامًا الحدود بينه وبين المدرّجات. واذا أردنا أن لا نكون الكرة، علينا أن لا نكون بين اللاعبين. واذا أردنا أن نشاهد الكرة، قد نجد أنفسنا في الوقت نفسه كالكرة بين أقدام اللاعبين.
وسط هذا التحلّل المتواصل والمتمادي، ثمّة من لا يزال يمنّي النفْسَ من بَنِيه، بقيامة دولة تكون واحدة unitaire وعادلة فيه، وثمّة من يحاجج بأنّ الدولة فيه كي تكون عادلة، عليها أن تكون اتّحادية، أي فدرالية.
والفدرالية لطالما استُحضرت ككلمة “كودية” أو مشفّرة، سواء بالتبنّي: “نحن المسيحيين / والفدرالية هويّة احتياطيّة نشهرها أنّى دعت الحاجة”، أو عنت: “أنتم المسيحيون / والفدرالية تهمة إمّا تطعن في وطنيّتكم، وإمّا تطعن في واقعيّتكم”.
والمفارقة في كل هذا أنّ الدولة المركزية أكثر وجودًا في مناطق المسيحيين، والهوى الفدرالي أكثر وجودًا في مناطق المسيحيين. المفارقة نفسها تبقي الفدرالية هنا ضمن حدود الهوى. المسيحيون بشكل عام يحبون الفدرالية “من بعيد لبعيد”. هوامش فقط من بينهم يحدث لها أن تتّخذ منها إطارًا خطابيًّا أو دعويًّا مثابرًا.
وبالنتيجة، أسلوب طرح الفدرلة في لبنان كثيرًا ما يميل إلى تبشيريّة “الفرقة الهامشية”، شبه المسلّمة بينها وبين نفسها، بأنّ فكرتها لن تتحول إلى روحيّة استقطابية فعليّة، بل هي تطمئنّ أكثر إلى هذه الفكرة من حيث هي ملاذ معنوي، أو شكل منمّق للتعبير عن الرغبة بالابتعاد عن الآخر، أو ربما عن جغرافيا المتاعب بحد ذاتها.
القسم الأكبر من اللبنانيين مقتنع بأنّ سبب تعاسته هم لبنانيون آخرون ليس فقط من الموجودين “فوق” في مواقع تركّز الثروة أو النفوذ أو العنف، إنما أيضًا من “تحت”، والتحت متفاوت كذلك بين الناس إذا ما احتسبناها بمعيار العنف والسلاح
في المقابل، نقد طروح الفدرلة في لبنان، على صوابيّته من جهة التذكير بأنّ المشكل اليوم يبقى في الدولة الفدرالية نفسها، من عهدة الدولة الاتحادية الجامعة، وليس من تدبير ولاياتها أو “الدول الفرعية”… هو نقد لا يمكن أن يفسّر في الوقت نفسه لماذا هناك أساسًا من تدغدغه فكرة الفدرالية أو من يتمسك بها كطوق نجاة؟ مردّ هذه السُمعة الحسنة للفدرالية عند كثيرين، أنهم يعتبرنها الأسلوب الأمثل في المجتمعات التعدّدية، وأنّهم يعتبرونها قائمة بشكل فصاميّ ومختلّ في لبنان، وجلّ ما يريدون هو تصحيح الفدرالية القائمة، بجعلها تأخذ شكل دولة فدرالية، بدل شكلها الحالي، كفدرالية قائمة بالمقلوب، كظلّ لواقع مشوّه قوامه دولة المحاصصة المركزية بين الطوائف، الرازحة في الوقت نفسه تحت وصاية “دولة فرعية” عليها، هي “دولة السلاح”.
وفيما يذكر نقّاد الطرح الفدرالي بأنّ المسائل السيادية المختلف عليها هي حتى في الدولة الفدرالية، متعلقة بهذه الدولة لا بالولايات، يتصرف أنصار الفدرالية كما لو أنّ هذه المشكلة، مشكلة الاختلاف حول العناوين السيادية، ما كانت لتطرح هكذا لو كان هناك أساسًا مجال للعبور نحو الفدرالية.
والفدرالية الجزئية والفصاميّة والقائمة بالمقلوب عندنا، هي بالفعل مجموعة معطيات أساسية. هذا من خلال انطباق مسمّى الفدرالية الشخصية على النظام الطوائفي، بحيث يمكن احتساب كل طائفة كما لو كانت ولاية، إنما ولاية غير جغرافيّة. لكن أيضًا، من خلال عيش التفاوت في وقائع وجود وعمل الدولة المركزية نفسها بين المناطق، بحيث إنّ هذه الدولة تتكثف أكثر في “الشرقية” منها في “الغربية” مثلًا، وفي “المركز” منه في “الأطراف”.
تبقى المشكلة أنّ الجدل حول الفدرالية، الذي عدنا وقرأنا نُتَفًا منه في الآونة الأخيرة، لا يرى التحلّل المجتمعي والكياني الحاصل بكل مداه، أي من حيث هو تحلّل للكلّ وتحلّل لأجزاء الكل في الوقت نفسه، بحيث لا يعود بمستطاعه أيّ جزء أن يتشكّل على هيئة قائمة بذاتها، ويكون له صورة وروحية قابلة للعيش.
إن على مستوى القوانين أو على مستوى الدساتير… نحن في وضع لا يمكن احترامه في الممارسة حتى ولو جرى التوصل إلى اتفاق على أيّ نصّ، قانون من القوانين، أو تعديل دستوري أو دستور. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أيّ خطة او خريطة طريق أو أيّ شيء.
والحلّ؟
المسارعة إلى السؤال “والحلّ؟” فيه أيضًا شُبهة التهرّب من جسامة الواقع نفسه. هذا الواقع الذي كي يكون المرء واقعيًّا بشكل جِدّي، لا يمكن أن يأخذ كل ما فيه على محمل الجِدّ أيضًا. هو واقع مليء بالسراب، ويعجّ بالأوهام، والكلمات التي فقدت قدرتها على توليد المعاني.
وبالمطلق، مشكلة أنّ أيّ شيء يتم الاتفاق عليه لا يمكن تطبيقه، هي مشكلة بلا حلّ. لكن، أساسًا، الاتفاقات الآن متعذّرة من أساسها.
تمامًا مثلما أنه، في السياق الاقتصادي المالي للانهيار، فإنّ أيّ سياسة لجم لانهيار مالي بهذه الضخامة، سوف تبدو سياسة شيوعيّة متطرفة جدًّا جدًّا بالنسبة للرأسماليين، وسياسة رأسمالية متطرفة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى الطبقات الشعبية. هذا قبل الغوص في نظرة كل طائفة لأيّ سياسة لجم للانهيار، كما لو أنّها تستهدف رأسمالها هي أو شعبها هي. ولأجل هذا كله، هو انهيار بلا لجم يلجمه.
تمامًا مثلما أنّ القسم الأكبر من اللبنانيين مقتنع بأنّ سبب تعاسته هم لبنانيون آخرون ليس فقط من الموجودين “فوق” في مواقع تركّز الثروة أو النفوذ أو العنف، إنما أيضًا من “تحت”، والتحت متفاوت كذلك بين الناس إذا ما احتسبناها بمعيار العنف والسلاح. كل الخطابية النضالويّة التي تتوجه إلى الناس بأنّ انقساماتها “تحت – تحت”، هي تضليل من الذين فوق، أو تغرير، أو استلاب بانقسامات “فوق – فوق”، وأنّ الأجدى أن يتحدّ التحت ضدّ الفوق كله، هي خطابية كثيفة الغشاوة، وفوقيّة تجاه الناس، ولا يمكن أن تشرح لنا لماذا لا يتم مرادها، حتّى عندما يظهر أنّنا نقترب منه، في لحظات بعينها.
إقرأ أيضاً: الأزمة خارج السيطرة: أهلاً بكم في جهنّم..
ذلك أنّنا في وضع الإصلاح داخله مستحيل، والثورة فيه ممتنعة، وأكثر القرار في كلّ هذا، مصدره خارج لبنان، شرقًا كان أو غربًا. بلد يتحلّل في مشرق يتحلّل، وعقد اجتماعي جديد كان مأمولًا في أيام تشرين، احتضر طيفه قبل احتضار المجتمع القديم نفسه.