أمس لم يكن الحَدَث في الشارع ولا في الاجتماع الأمني والمالي في قصر بعبدا، بل في وزارة الدفاع باليرزة. بيان “استثنائي” بمضمونه بالصوت والصورة لقائد الجيش العماد جوزف عون، سَبَقه تسريب مقصود، في سابقة غير معتادة، لكلمة قائد الجيش التي ألقاها أمام أركان القيادة وقادة الوحدات والأفواج وأعضاء المجلس العسكري، وذلك قبل توجهه إلى قصر بعبدا.
ما قيل في لقاء اليرزة بدا على موجة مغايرة تمامًا لِما قيل في بعبدا. ميشال عون القائد الأعلى للقوات المسلّحة يطلب “فتح الطرقات فورًا”. وقرار قيادة الجيش من اليرزة واضح: “مع التعبير السلمي ولا فتح طرقات بالقوّة، بعدما وضعتم الجيش بمواجهة أهله وناسه، لكن مع خط أحمر هو منع المسّ بالسلم الأهلي”.
في تماهٍ كاملٍ مع لهجة الشارع قال قائد الجيش: “معاناتنا هي نفسها معاناة الشعب. نحن مع حرية التعبير السلمي التي يرعاها الدستور والمواثيق الدولية، لكن ضدّ التعدّي على الأملاك العامة والخاصة والمسّ بالسلم الأهلي”
وانعكست اللهجة الرئاسية في البيان الصادر عن لقاء بعبدا حول “ضرورة قيام الأجهزة الأمنية والعسكرية بواجباتها كاملة وتطبيق القوانين من دون تردّد”، مع التسليم بأنّ “قطع الطرق مرفوض ويشكّل اعتداءً على حقّ المواطنين بالتنقل، والأمر بات يتجاوز مجرد التعبير عن الرأي إلى عمل تخريبي منظّم يهدف إلى ضرب الاستقرار”.
هي رسالة وُجّهت بشكل أساس إلى قائد الجيش المعني الأول بفتح الطرقات، بعدما كان قد بقّ البحصة في وزارة الدفاع: “ما بقى فينا نضل ساكتين على أمور كتيرة تحصل وحملات متواصلة علينا من جهات عدة لأسباب بتنا نعرفها”.
وَصَف جوزف عون الوضع بـ”الخطير جدًّا”، متوجّهًا إلى “حضرات” المسؤولين السياسيين: “العسكري كما الشعب يعاني ويجوع. وين رايحين؟ شو ناطرين؟ شو ناويين تعملوا؟ حذّرنا أكتر من مرة من خطورة الوضع ونزول الناس إلى الشارع مجددًا ومن انفجار الوضع”.
وفي تماهٍ كاملٍ مع لهجة الشارع قال قائد الجيش: “معاناتنا هي نفسها معاناة الشعب. نحن مع حرية التعبير السلمي التي يرعاها الدستور والمواثيق الدولية، لكن ضدّ التعدّي على الأملاك العامة والخاصة والمسّ بالسلم الأهلي“.
ووجّه عون اتّهامًا صريحًا للسياسييين بنزع الغطاء عن المؤسسة العسكرية، سائلًا “بدّكن جيش يضلّ واقف على أجريه أو لا؟ الأعباء كبيرة ولا تقابل بخفض مستمر ومتكرّر للموازنة، ولا بنقاشات عن التدبير رقم 3… مش فارقة معهم الجيش ولا معاناة العسكر. نحن لن نقبل المسّ بحقوقكم، مع العلم أننا أوّل من مارس سياسة التقشّف منذ 2018”.
والرسالة الأبلغ تعبيرًا التي وجّهها قائد الجيش: “المؤسسة العسكرية على مسافة واحدة من الجميع. وهناك حملات سياسية ضدّ الجيش لأنهم يريدونه مطواعًا بأيديهم، وهالشي بأيامي لا صار ولا رح يصير. وممنوع على أيّ كان التدخّل بشؤوننا، لا بالتشكيلات ولا بالترقيات ولا حتّى برسم مسار المؤسسة العسكرية وسياستها. وهذا الأمر يزعج البعض”.
كلامُ كبير وغير مسبوق يصدر عن قائد الجيش في ظل أزمة مصيرية. تسريب الكلمة وفحواها انعكس توترًا واضحًا على خط بعبدا – اليرزة. والدليل أنّ “الأمر” المباشر الذي صدر عن رئيس الجمهورية بفتح الطرقات “فورًا” ومنع إقفالها، لم يُترجم على الأرض لا بل ازدادت وتيرة الاحتجاجات وتمدّدت في المناطق حتى ليل أمس.
وكما وجّه قائد الجيش رسالة بالغة الوضوح بعدم “تحميل المؤسسة العسكرية وَسَخ الطبقة السياسية ووَضعِه في مواجهة مع شارع أعزل وجائع، فيما الحلّ سياسي وليس عسكريًّا”، كان رئيس الجمهورية ميشال عون بدوره يوجّه رسالة إلى “المفاتيح” المحرّكة لبعض الاحتجاجات، من خلال “المضيّ في برنامجه الإصلاحي مهما بلغت الضغوط” قائلًا: “أتيت لإحداث التغيير المنشود ولن أتراجع”، مشيرًا إلى “الشعارات التي يتمّ رفعها بقصد المساس بوحدة الوطن وإثارة الفتن والنيل من الدولة ورمزها”.
ووفق المعلومات تحدّث رئيس الجمهورية وحده في مسألة فتح الطرقات، وقال: “هناك ستة ملايين لبناني لهم حقّ التنقل، بينما 100 ألف آخرون يقطعون عليهم الطريق”، طالبًا “فتح الطرقات فورًا ولن أقول أكثر من ذلك”.
الرسالة الأبلغ تعبيرًا التي وجّهها قائد الجيش: “المؤسسة العسكرية على مسافة واحدة من الجميع. وهناك حملات سياسية ضدّ الجيش لأنهم يريدونه مطواعًا بأيديهم، وهالشي بأيامي لا صار ولا رح يصير. وممنوع على أيّ كان التدخّل بشؤوننا”
مع العلم أنّ الجيش عَمد أمس إلى فتح الطرق في أكثر من منطقة خصوصًا “طريق الجنوب” الساحلي، مع محاذرة الاصطدام بالمتظاهرين بالقوة، واستيعاب معظم التحرّكات والبقاء في وضعية المؤازرة. كما منع بشكل تام قطع الطريق البحرية شمالًا وجنوبًا، وإبقاء بعض المسارب على الأوتوسترادات مفتوحة.
وكان لافتًا بقاء قائد الجيش صامتًا طوال اجتماع بعبدا، بينما أخذ الوضع المالي وارتفاع سعر الدولار والمضاربات، وتأثير المنصات الإلكترونية على السوق السوداء، الحيّز الأكبر من النقاش، وعرض قادة الأجهزة الأمنية تقاريرهم واقتراحاتهم.
واستذكر عون خلال اجتماع بعبدا مرحلة 13 تشرين، مؤكدًا أنّه “لم يهرب من مسؤولياته والضباط يعرفوني جيدًا. كانت هناك مؤامرة ضدّي لكني انتصرت وعدت ببرنامج إصلاحي ولن أسمح لأحد اليوم بكسري”.
في بعبدا المشهد واضح: هناك استهداف مباشر لرئيس الجمهورية وفريقه السياسي. وعلى طاولة ميشال عون العديد من التقارير الأمنية التي تدلّل على هوية بعض المشاركين في الاحتجاجات.
ويعدّد القريبون من دائرة بعبدا المُدرَجين على لائحة “الاتّهام”: تيار المستقبل، وحركة أمل، والقوات اللبنانية، والكتائب، والحزب الاشتراكي، وجماعات بهاء الحريري وأشرف ريفي، وعسكريون متقاعدون، و”ثوار” يتحرّكون وفق أجندة… لكن مع التسليم بوجود صرخات مواطنين محقّة وصادقة.
ويتّكئ القريبون من عون على واقع المشاركة الهزيلة في التحرّكات، لاستنتاج الآتي: “الأحزاب كشفت أخيرًا عن وجهها. وبعدما تلطّت سابقًا خلف المجتمع المدني وبعض مجموعات الثورة، خلعت القناع اليوم وكشفت عن مخططها التخريبي. لكنّ التجاوب الشعبي مع هذا المسار كان خجولًا جدًّا، ويكاد يكون غير مرئي”. وهذا الواقع تحديدًا شكّل عامل اطمئنان لدى فريق رئيس الجمهورية.
ويوم أمس عُزّزت الإجراءات الأمنية في محيط القصر الجمهوري تحسّبًا لأيّ طارئ قد يقود المتظاهرين الذين انفلشوا في العديد من المناطق، وعمدوا إلى قطع الطرقات وإحراق الدواليب إلى التقدّم باتجاه بعبدا،”الوجهة” الأساسية التي طالتها رسائل المحتجين. لكنّ بقعة القصر الرئاسي بقيت بمنأًى عن غضب الشارع.
وبدا بيان بعبدا حول ارتفاع الدولار وخطورة المنصات والتلاعب بأسعار المواد الغذائية، وملاحقة المضاربين والصيارفة، متأخرًا جدًّا عن واقع يرزح اللبنانيون تحت ثقله منذ أشهر.
إقرأ أيضاً: الأزمة خارج السيطرة: أهلاً بكم في جهنّم..
والمفارقة الأكبر أنّ أجهزة الدولة تحرّكت دفعة واحدة لملاحقة هؤلاء، بعدما تجاوز سعر الدولار العشرة آلاف دولار… وكأنّ الخطر لم يكن داهمًا مع وصول الدولار إلى عتبة ثمانية أو تسعة آلاف ليرة.