لماذا كان هذا التحرّك في الشارع اللبناني بعد 48 ساعة من الحدث التاريخي الذي شهدته بكركي؟ هل صدفة ارتفاع الدولار فجأة إلى عشرة آلاف ليرة في بلد لا يحدث فيه شيء بالصدفة؟ لماذا لا يسأل اللبنانيون أنفسهم، قبل النزول إلى الشارع، ما الذي أدّى إلى تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، وقبل ذلك لماذا انهار النظام المصرفيّ اللبناني؟
بكلام أوضح، من المفيد طرح سؤال في غاية البساطة: لماذا انهار لبنان وهل من خيار آخر غير “الحياد”؟
قبل الخوض في موضوع التحرّك الشعبي الذي حصل مساء الثلاثاء في بيروت ومناطق عدّة، لا يمكن تجاهل كلام البطريرك الماروني بشارة الراعي عن “الحياد النشط” للبنان، والمؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة. ما كان يمكن لهذا الكلام الصادر يوم السبت الماضي، أن يأخذ كلّ هذه الأهميّة، لولا الفراغ السياسي الذي يعانيه البلد، ولولا حاجة اللبنانيين إلى التعلّق، ولو بحبال الهواء، بعدما صار مصير بلدهم في مهبّ الريح.
الفراغ قائم على كلّ المستويات، ولم يستطع أيّ طرف ملأَهُ باستثناء سلاح “حزب الله” الذي بات يتحكّم بمصير لبنان واللبنانيين، من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق… وبمستقبل أولادهم. ليس ما يزعج سلاح “حزب الله” أكثر من كلام بشارة الراعي الذي يختزل أزمة لبنان.
تبدو أزمة لبنان واضحة. في جذورها الإصرار على بقائه منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، “ساحة”، أيّ ورقة إيرانية الآن بعدما كان ورقة سوريّة وقبلها فلسطينية. حين يتصالح اللبنانيون مع الوضوح، لا يعود هناك سبب للتساؤل لماذا حصل الانهيار الكامل، ولماذا هذا الانهيار مستمرّ.
بكلام أوضح، من المفيد طرح سؤال في غاية البساطة: لماذا انهار لبنان وهل من خيار آخر غير “الحياد”؟
في ظلّ الفراغ، ليس مستغربًا تجاوز سعر الدولار الواحد للعشرة آلاف ليرة لبنانية، وأن يصبح لبنان أحد أفقر عشرة بلدان في العالم، أي في مصاف بلدان مثل اليمن وبنغلادش والصومال.
يُعتبر ما يحصل في لبنان، بعدما كسر الدولار حاجز العشرة آلاف ليرة – وهو حاجز نفسي أوّلًا – نتيجةً طبيعية لغياب المنطق من جهة، وسيطرة الفراغ على كلّ ما عداه من جهة أخرى.
دخل البطريرك الراعي على خط سدّ الفراغ، لعلّ وعسى هناك في لبنان من لا يزال يفكّر في مصلحة البلد ومستقبله، وليس في كيفية خدمة “الجمهورية الاسلاميّة” في إيران ووضع نفسه في تصرّفها.
نزل اللبنانيون مجدّدًا إلى الشارع، بعدما دخل لبنان مرحلة السقوط الحرّ في عهد ميشال عون – جبران باسيل، وهو “عهد حزب الله” بامتياز. ليس ما يمكن أن يمنع سعر الدولار من بلوغ رقم الـ20 ألف ليرة، بفضل الإنجازات التي حقّقها الحزب الذي لا هدف له سوى خدمة مصلحة إيران ومشروعها التوسّعي الذي صار في طريق مسدود.
يبدو ضروريًّا في هذه المرحلة، طرح السؤال الحقيقي والأساسي المتعلّق بالسبب الذي جعل الدولار يصل إلى ما فوق العشرة آلاف ليرة: من أوصله الى هذا المستوى غير تحالف السلاح والفساد؟
عندما يدرك اللبنانيون هذه الحقيقة، بما في ذلك النتائج الكارثية التي ترتّبت على إشراف جبران باسيل على قطاع الكهرباء منذ 12 عامًا، تكون هناك فائدة من النزول إلى الشارع.
يُفترض بأيّ مواطن أن يتذكّر الماضي القريب، وأن يمتلك ما يكفي من الشجاعة والجرأة، للاعتراف بأنّ الخيار كان دائمًا واضحًا. كان الخيار بين بناء بلد مزدهر من جهة، وبين تدميره وتحويله “ساحة” للآخرين من جهة أخرى. كان الخيار دائمًا بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. بين ثقافة البطريرك الماروني التي تعمل من أجل ملء الفراغ السياسي واستعادة لبنان ازدهاره، وبين ثقافة “حزب الله” من أجل استمرار هذا الفراغ إلى ما لا نهاية.
كان الهدف من انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، سدّ الفراغ القائم، وهو فراغ خلقه “حزب الله” الذي أغلق مجلس النوّاب سنتين وخمسة أشهر مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، الذي حاول خلالها تدوير الزوايا بطريقة أو بأخرى بدل الاستسلام كلّيًا للحزب.
يُعتبر ما يحصل في لبنان، بعدما كسر الدولار حاجز العشرة آلاف ليرة – وهو حاجز نفسي أوّلًا – نتيجةً طبيعية لغياب المنطق من جهة، وسيطرة الفراغ على كلّ ما عداه من جهة أخرى
تبيّن مع مرور أربع سنوات وخمسة أشهر على انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية في 31 تشرين الأوّل 2016، أنّ استمرار الفراغ في موقع رئيس الجمهورية، في العام 2016، كان أفضل بكثير ممّا آل إليه البلد الآن. لبنان بلد لا يجد فيه رئيس الجمهورية ما يقوله في تبرير رفضه تشكيل “حكومة مهمّة” من اختصاصيين، سوى أنّه يريد التمسّك بحقوق المسيحيين وحمايتها. يدفع لبنان حاليًّا ثمن خيار الرهان على ميشال عون، الذي تبيّن أن لا علاقة له من قريب أو بعيد بهموم لبنان واللبنانيين. لا همّ لديه سوى مستقبل جبران باسيل وليس مستقبل لبنان.
إقرأ أيضاً: ما هي خطّة الحزب لإجهاض تحرّك الراعي؟
الأكيد أن ليس في الإمكان لوم الذين نزلوا إلى الشارع على الرغم من وباء كورونا، للاحتجاج على الوضع وإعلان رفضهم للطبقة السياسية التي لم يوجد فيها من يعترض على حلف الفساد والسلاح. الأكيد أيضًا أن لا أفق لهذا التحرّك في ظلّ غياب الوضوح، بل الشجاعة التي تعني أوّل ما تعنيه، أنّ ما طرحه البطريرك الراعي يستهدف ملء فراغ لا يستفيد منه ويعمل من أجل تكريسه سوى “حزب الله”.
في غياب الوضوح والشجاعة، سيظلّ لبنان بلدًا فقيرًا يدور في حلقة مقفلة. سيدفع غاليًا ثمن وصول ميشال عون، مرشّح “حزب الله” الحاقد على كلّ نجاح تحقّق في البلد، إلى قصر بعبدا. سينتقل لبنان من انهيار إلى انهيار، خصوصًا أنّه صار معزولًا عن محيطه العربي، في حين لا وجود لقيادة سياسية في مستوى الأزمة الداخلية، وما يدور في المنطقة وفي العالم…