يوسف شعبان سارق الكاميرا الّذي أخاف عبد الحليم

مدة القراءة 8 د

في إحدى المقابلات، روى الممثّل يوسف شعبان، الّذي رحل في أمس الأوّل عن 90 عامًا، متأثّرًا بإصابته بفيروس كورونا، كيف رفض عبد الحليم حافظ مشاركته في فيلم “معبودة الجماهير”، بعدما قدّم أعمالًا ناجحة، لفتت انتباه النّقاد والجماهير، وُصف بعدها بأنّه سارق كاميرا، بمعنى أنّه يستطيع أن يخطفها من الفنان الّذي يقف أمامه.

خاف عبد الحليم من هذا النّوع من النّجوميّة، لأنه كان، وفق رواية شعبان، يعدّ نفسه ليكون الممثّل الأوّل بعد أن أصبح المطرب الأوّل. لكنّ النّجمة شادية بطلة الفيلم، أصرّت على وجوده في الفيلم، وحصل خلاف بينها وبين عبد الحليم حول هذا الموضوع، تسبّب بتأخير التّصوير لثلاثة أسابيع، قبل أن يعمد مخرج الفيلم حلمي رفلة، إلى استشارة كاتب القصة مصطفى أمين حول من يجده مناسبًا لتقديم هذا الدّور، فطرح شعبان، وحينها تراجع عبد الحليم عن موقفه.

تلك القدرة على سرقة الكاميرا طبعت حضور النّجم الرّاحل منذ مشاركته الأولى في فيلم “سهم الله” عام 1958، وفيلم “في بيتنا رجل” 1961، الّذي يعدّ انطلاقته الفعليّة، حتّى آخر ظهور له في فيلم “المشخّصاتي 2″عام 2016. فقد كان قادرًا على أن يحوّل الأنظار إليه في وجود أيّ ممثّل، وهو الأمر الذي شكّل ظاهرة خاصة امتاز بها وصنعت على امتداد سيرته الطّويلة عنوانًا لخصوصيّته وتفرّده.

لم يكن شعبان فتى الشّاشة الوسيم، ولم يكن النجم صاحب الهالة الّتي تطوّع النصوص لأجله، ويغيّر المخرجون طرائق عملهم والكتّاب نصوصهم لأجل مدّه بأكبر قدر ممكن من الظّهور على حساب كلّ فريق العمل، بل كان ذلك الممثّل الّذي لا يمكن أن يقوم العمل من دونه.

خاف عبد الحليم من هذا النّوع من النّجوميّة، لأنه كان، وفق رواية شعبان، يعدّ نفسه ليكون الممثّل الأوّل بعد أن أصبح المطرب الأوّل

كان دائمًا الممثّل الضروريّ والأساسيّ بغضّ النّظر عن حجم دوره وطبيعته، وعما إذا كان دور بطولة أو دورًا يقتصر على مشاهد قليلة.

صنع لنفسه نجوميّة لا تقبل بالمساومة على شروط جودة التّمثيل، أو أن تلصق بها عناوين لا ترتبط به وتُبنى عليه. لذا أجبر المخرجين والمنتجين والممثّلين والجمهور على حدّ سواء على التّعامل معه من خلال وسيط واحد هو المشاهدة.

قد يكون أحد الممثّلين القلائل الذين التصق تعريفهم بأدوارهم. يوسف شعبان لا يملك ألقابًا بل يصنع أدوارًا، فهو “محسن ممتاز” في مسلسل “رأفت الهجان”، و”سلامة فراويلة” في  مسلسل  “المال والبنون”، و”حافظ رضوان” في مسلسل “الشهد والدموع”، و”عاصم” في فيلم “معبودة الجماهير”، و”سرحان البحيري” في فيلم “ميرامار”.

يجبر يوسف شعبان المشاهد على تذكّره، ومفتاحه في ذلك هو الثّقة النّابعة من تركيبة احترافيّة ومهنيّة، وسعي دائم للتّطوير ومراكمة الخبرات، وتجديد الأساليب والمهارات والتّقنيات. كل ذلك جعل من الأدوار التي قدّمها خلال مسيرته الطّويلة، تبدو وكأنّها سلسلة طويلة من الدّروس التّطبيقيّة في فنّ التمثيل الاحترافيّ  تغطّي جلّ مراحل السّينما والدراما المصريّة.

غزارة الشّخصيات الّتي قدّمها بنجاح، وقدرته على منحها التميز والفرادة على الرّغم من أنّها قد قدّمت مرارًا وتكرارًا، يعود إلى أنّه كان يرصد أطوار الشّخصيّات وتحوّلاتها، ويحرص على تظهيرها بشكل ديناميّ، فتبدو الشّخصيّة وكأنها تنمو وتتطور وتتناقض وتتصارع مع نفسها ومع ظروفها، ومع واقعها ورغباتها وطموحاتها.

قد يكون أحد الممثّلين القلائل الذين التصق تعريفهم بأدوارهم. يوسف شعبان لا يملك ألقابًا بل يصنع أدوارًا

كان الرّاحل يتعامل مع كلّ هذه التّطورات بما يلائمها من تجسيد امتاز بالقدرة على الإقناع والإمساك بالأحوال الانفعالية المتباينة والمتناقضة، وعرضها بطريقة شديدة التّماسك.

يندر أن تجد ممثلًا من هذه الطّينة، لا يشوب عمله ثغرات ملحوظة يمكنها أن تؤثّر على درجة الإقناع، خصوصًا أنّه لم يحصر نفسه في نوع واحد، بل قدّم الدراما والكوميديا والأدوار التّاريخية في المسرح والسّينما والتّلفريون.

 يوسف شعبان كان من هذه الطّينة النّادرة فقد كان أشبه بكائن حربائيّ يتحوّل بشكل كامل إلى الشّخصيّة.

شخصيّة “محسن ممتاز” ضابط المخابرات التي جسّدها في المسلسل الأيقونيّ “رأفت الهجان”، لم تعد في نظر المشاهدين وفي تاريخ الدراما التّلفزيونيّة مجرد أداء باهر لشخصيّة ضابط المخابرات، بل تحوّلت إلى النّموذج المثالي المتكامل لرجل المخابرات في الدراما. كلّ من يرغب في تقديم هذه الشخصية صار مجبرًا على التّعامل مع الحدود القصوى التي فرضتها الطّريقة التي قدّمها فيها يوسف شعبان.

رجل المخابرات في هذا المسلسل ليس شخصيّة جامدة مسجونة في متطلّبات هذه الوظيفة الأمنيّة الحسّاسة، بل شخصيّة متعدّدة الملامح، وتدخل في تركيبها وتحديد سلوكاتها وعواطفها، مجموعة كبيرة من التّعقيدات تخرجها من التّنميط الّذي وسم تقديم صورة رجل المخابرات في السّينما وفي الدراما التّلفزيونيّة.

إنّها شخصيّة متطوّرة متفاعلة مع الواقع وغنيّة، ولا يمكن اختصارها ببعد واحد مهما كان ضخمًا. لعلها الطّريقة التي قُدمت بها والتي تحرص على إبراز تطوّر العلاقة بينها وبين “رأفت الهجان”، وهو الشّخصيّة الّتي جسّدها النّجم محمود عبد العزيز، منذ لحظة لقائه به والتي كان فيها الشكّ والاختبار غالبًا ومسيطرًا، ما فرض طريقة تّمثيل  تتسم بالملامح الجامدة ونبرة الصّوت العميقة المهدّدة وحركة الجسد المتحديّة.

تطوّر العلاقة خلق طورًا تمثيليّا مختلفًا، فبدأت اللّهفة تنطبع على الوجه القاسي لضابط المخابرات، وتحوّلت حركة الجسد من الشّد الموحي بالتّهديد إلى الاسترخاء الذي يدل على الاحترام والتّحبب والثّقة، والصوت بات مرتاحًا للدلالة على أنّ الحوار يجري بين أصدقاء.

في مشهد من فيلم “ميرامار” المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، يقدّم يوسف شعبان واحدة من أشهر جمل السينما المصرية. خلال محاولاته إغواء زهرة العاملة في بنسيون ميرامار، يردّ على سؤال صاحبة البنسيون عن عمله بصوت عالٍ قائلًا: “سرحان البصيري، أنا وكيل حسابات شركة الغزل، وعضو مجلس الإدارة المنتخب، وعضو الاتحاد الاشتراكي، وإذا حدّ اتصل بيّا من الاتحاد الاشتراكي يا ريت تبلّغيني”.

يرمي بهذه الجملة كبيان يختصر عناوين الإغواء في ذلك العصر، فالفيلم من إنتاج عام 1969 وشخصيّة يوسف شعبان فيه تتقلّب بين أصلها الرّيفيّ ومحاولاتها الدّخول في ركاب الثّورة، للحصول على المكانة والمال، وهو ما لا يكون ممكنًا إلا عبر  المشاركة في نهب المال العام والّذي يتسبّب بانتحاره بعد فضح أمره.

شخصيّة “محسن ممتاز” ضابط المخابرات التي جسّدها في المسلسل الأيقونيّ “رأفت الهجان”، لم تعد في نظر المشاهدين وفي تاريخ الدراما التّلفزيونيّة مجرد أداء باهر لشخصيّة ضابط المخابرات، بل تحوّلت إلى النّموذج المثالي المتكامل لرجل المخابرات في الدراما

يقدم شعبان هذا الدّور المعقّد بطريقة باهرة، فخلال إلقائه لهذه الجملة يتّخذ وضعيّة المغوي الذي يراقب أثر كلماته ووقعها على ضحيّته، وتكون ملامحه وتعبيراته وحركة جسده متوزّعة بين وقفة المغوي الواثقة، ونظرات الريفي المتردّدة، وتعابير الرّغبة المشتعلة لمن يُقدم على التّعامل مع عالم جديد وتجارب مختلفة.

اختصر شعبان في مشهد واحد سلسلة من المعاني والدّلالات، وبثّ صورة حيّة ومباشرة عن الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك العصر، يمكن النظر إليها حاليًّا على أنهّا النوع الأسمى من التّوثيق، الّذي لا يعني بالتسجيل الإخباريّ للواقعة التّاريخية بقدر اهتمامه بتصوير معناها وأثرها.

إنّه التّوثيق بالمعنى، وهو ما يجعل من الكيفيّة التي قدّم بها شعبان هذا المشهد وثيقة فنيّة تاريخيّة، تشهد على شبكة معقدة من التّحولات وترصدها وتفسرها بشكل مكثّف وواضح.

إقرأ أيضاً: رحيل عزّت العلايلي: آخر فرسان “البطولة الجماعية”

التّمثيل بالصمت في مشهد وفاة شخصية “سلامة فراويلة” في مسلسل “المال والبنون”، قد يكون واحدًا من المشاهد الأيقونيّة العالميّة.

بلاغة التّعبير عن النّدم تتجلى في الصّمت والبكاء. إذا نظرت إلى وجه الممثّل الرّاحل خلال تقديمه هذا الدّور، تلاحظ وكأنّه يضيق ويذوي ويخشع أمام تلاوة الممثّل عبد الله غيث لآيات من سورة “المال والبنون”.

يعبّر بالصّمت عن ندم لا تستطيع الكلمات حمله، ويصنع المشهد الّذي يمكن النّظر إليه بوصفه النّموذج الفنيّ المثاليّ للتّعبيرعن مفهوم النّدم.

لعلّ الحزن الكبير الذي تلقى به الوسط الفنيّ خبر وفاة يوسف شعبان أبلغ دليل عن حجم مكانته ونوعها، وكأنّ التّمثيل كان مهمًّا وحيويًّا لأنّه يحدث تحت ظلال حضوره، وكأنّه كان يمنحه الوزن والشرعية.

يوسف شعبان هو الممثّل الذي تبحث الجماهير عن ملامحه في كل ما يُعرض من أعمال. من هنا يمكن القول إنّ رحيله أصاب متعة المشاهدة بخلل جوهريّ يصعب إصلاحه.   

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…