كان لافتًا قرار الرئيس الامريكي اختيار منطقة البوكمال السورية لتوجيه ضربة عسكرية لمواقع ميليشيا كتائب حزب الله العراقية، المتهمة بالوقوف وراء استهداف مطار أربيل والقاعدة الأمريكية فيه. فالهدف الذي تم ضربه يعود لمجموعة تدور في الفلك الإيراني، وموقف البيت الأبيض كان واضحًا بأنّ الرسالة التي على النظام الإيراني التوقف عندها، تؤكد أنّ دائرة الردّ أو مروحته، لن تكون مقتصرة على جغرافيا محدّدة أو جغرافية المنطقة التي يتم استهداف القوات الامريكية فيها، بل من المحتمل أن تشمل في حال تطوّرت الأمور وذهبت نحو مزيد من التصعيد والتوتر، كلّ الجغرافيا التي تمثّل مناطق نفوذ إيرانية وتسيطر عليها قوى وأحزاب متحالفة أو تابعة لطهران.
اختيار الأراضي السورية للردّ على الاعتداء الذي تعرضت له قاعدة مطار أربيل وبعدها المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد، التي تضم السفارة الأميركية، يصبّ وينسجم مع المؤشرات الأولى التي بدأت تتبلور حول السياسة أو الاستراتيجية التي قد تعتمدها الإدارة الجديدة، في التعامل مع الساحة العراقية وأزمة الاشتباك مع النفوذ الإيراني، والتعامل مع الفصائل والميليشيات التي تدور في فلك طهران. ولعلّ أبرز مقوّماتها السعي لتحييد الساحة العراقية عن لعب دور ساحة تبادل رسائل بين الطرفين، يتم استخدامها عندما تصل الأمور أو المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة حول الملفّ النووي وما يلحق به من برنامج صاروخي، وحدود الدور الإقليمي، إلى تعقيد نتيجة تمسك الطرفين بموافقهما، كما كان يحدث في السابق.
الموقف المشكّك الذي أعلنه وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، من الاعتداءات التي تعرّضت لها المواقع الأميركية في العراق، سواء في أربيل أو بغداد أو قوافل الدعم اللوجستي، تمثّل في قوله إنّ الهدف منها هو إحداث خلل في العلاقات الإيرانية العراقية، وضرب الاستقرار والأمن في هذا البلد، والتشديد على ضرورة أن تقوم الحكومة العراقية بملاحقة الجهات التي تقف وراء هذه الاعتداءات… يصبّ في سياق المواقف التي سبق أن أعلنها وزير الخارجية العراقية فؤاد حسين الذي يزور طهران للمرّة الثانية خلال شهر واحد. فقد اعتبر أنّ الجهة التي تقف وراء الاعتداء على أربيل هي جماعة إرهابية، تريد تحويل العراق إلى ساحة صراع بين قوى خارجية. وهي مواقف لم تجد اعتراضًا لدى الجانب الإيراني خصوصًا في اللقاءين الذين عقدهما مع نظيره ظريف، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.
اختيار الأراضي السورية للردّ على الاعتداء الذي تعرضت له قاعدة مطار أربيل وبعدها المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد، التي تضم السفارة الأميركية، يصبّ وينسجم مع المؤشرات الأولى التي بدأت تتبلور حول السياسة أو الاستراتيجية التي قد تعتمدها الإدارة الجديدة
تشكيك ظريف والقبول الضمني بحسب ما هو معلن بالموقف العراقي الذي عبّر عنه “حسين”، يأتي على النقيض مما حاولت تبنّيه صحيفة “كيهان” الخاضعة لإشراف مكتب المرشد الأعلى علي الخامنئي. “كيهان” اعتبرت أنّ الردّ على الاعتداء الأميركي جاء سريعًا على الجبهة اليمنية، وما وقع في بحر عُمان باستهداف الباخرة الإسرائيلية. ما يوحي بوجود أكثر من موقف إيراني من التطورات التي تشهدها المنطقة، خصوصًا على الساحة العراقية التي يبدو أنّ الطرفين الإيراني والأميركي قد توصّلا إلى شبه تفاهم عبر قنوات التواصل بينهما، على ضرورة العمل من أجل تحييدها والعمل على تسهيل عملية خروج العراق من أزماته السياسية والاقتصادية في هذه المرحلة المعقدة. وهو منطلق لاختبار النوايا بين الطرفين يسهّل عملية التفاهم أو التفاوض على حدود الدور الإيراني في الإقليم مستقبلًا.
محاولة طهران التنصّل من الاعتداءات على القواعد الأميركية، يدفع للاعتقاد بجدية ما يدور من حديث في أروقة القرار السياسي، عن سلبية في الموقف الإيراني من بعض الفصائل العراقية المحسوبة عليها في العراق، بدأت تتمظهر من خلال رفضها بعض الممارسات التي تقوم بها هذه الجماعات على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وعرقلة العملية السياسية.
وقد شكّلت عملية اعتقال خلايا الاغتيالات التي جرت في البصرة قبل أسابيع، مؤشرًا على هذا السلوك الإيراني الجديد، خصوصًا أنّ المعتقلين كانوا ينتمون إلى جماعات محسوبة على طهران. وهذا التوجه الإيراني الجديد ينسجم مع التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية ومساعي الطرفين لإنجاح مهمة الحكومة الموقتة التي يرأسها مصطفى الكاظمي، بعيدًا عن معضلة الأخير في إدارة ملفّ العلاقة مع القوى والأحزاب التي ساهمت في إيصاله إلى هذا الموقع وحجم تأثيرها السلبي على أداء الحكومة في إدارة الملفات الحساسة والأساسية. خصوصًا طهران التي تحاول التملّص من تهمة عرقلة الحكومة أو تحميلها مسؤولية دعم مواقف وتصرفات هذه الجماعات والقوى.
محاولة طهران التنصّل من الاعتداءات على القواعد الأميركية، يدفع للاعتقاد بجدية ما يدور من حديث في أروقة القرار السياسي، عن سلبية في الموقف الإيراني من بعض الفصائل العراقية المحسوبة عليها في العراق
لا شك أنّ الضربة العسكرية الأمريكية في دير الزور شكّلت صدمة لطهران التي لم تفلح مواقفها المشكّكة والرافضة للاعتداءات ضدّ القوات الأميركية في العراق في إبعاد الردّ الاميركي الذي جاء قاسيًا وفي توقيت لا يخدم جهودها في حصر أزمتها مع واشنطن ضمن الاتفاق النووي والشدّ الحاصل حول الجهة التي يجب أن تبادر لاتخاذ الخطوة الأولى باتجاه الحلول.
فالضربة الأميركية كانت واضحة الهوية وغير ملتبسة ولم يتردّد الرئيس جو بايدن بالإعلان عن مسؤوليته المباشرة في اتخاذ قرارها. فيما أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي أنّ الضربة تحمل رسالة واضحة إلى الجانب الإيراني بعدم إمكان الفرار من تحمّل المسؤولية عن الأعمال التي تهدّد مصالح واشنطن والمواطنين الأميركيين.
إقرأ أيضاً: الكاظمي منع بايدن من الردّ على إيران في العراق
اختيار الحدود العراقية السورية وتوجيه الضربة – الردّ داخل الأراضي السورية لم يكن هذه المرة إسرائيليًّا أو مجهول الهوية على غرار ما شهدته هذه المنطقة في السنوات الماضية. بل سارعت واشنطن لإعلان مسؤوليتها، ما يجعل هذا الاختيار وهذا الإعلان حمّال رسائل تتعدّى كونه ردّة فعل على اعتداء أربيل واستهداف السفارة في بغداد. بل تقول الضربة لإيران إنّ التفاهم الضمني هو على تحييد الساحة العراقية، وقطع الطريق على انتقال الأمور نحو ردّ وردّ مقابل وما يحمله من تداعيات… وإلّا فإنّ المنطقة كلّها مفتوحة لتكون ساحة ردّ أميركي على أيّ تصعيد إيراني، سواء جاء من طهران أو من حلفائها. أما الرسالة الأخطر فهي أنّ واشنطن لن تسمح بتحويل هذه المنطقة الحدودية إلى منطلق لتهديد حلفائها في الإقليم، من خلال تحويلها إلى قواعد صواريخ متقدمة، بالإضافة إلى أنّ هذه الضربة تضع المشروع الإيراني في الوصول إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط وتكريس “طريق محور المقاومة” من طهران مرورًا بالعراق وصولًا إلى سوريا ولبنان عبر بوابة البوكمال – دير الزور، أمام الكثير من عدم الواقعية. وفي الرسالة أنّ الجهود الإيرانية لإنشاء هذا الطريق بات هذه المرّة تحت الأنظار الأميركية وليس الإسرائيلية فقط، وبالتالي قد يفرض على طهران إعادة النظر في الكثير من أساليب تعاملها مع الملفات الإقليمية وحتّى النووية.