إن كان هذا المسارُ السلبيُّ يكشِفُ تراجعَ مستوى المسؤوليّة، وتدنّي مستوى الطبقةِ السياسيّةِ، وتفاقمَ الصراعِ السياسيِّ الداخليِّ، فإنه يؤكّدُ عدمَ رَغبةِ ممثّلي مكوّناتٍ معيّنةٍ بالتفاهمِ على حلٍّ من خلالِ النظامِ القائمِ، والصيغةِ الميثاقيّةِ، والدولةِ الحاليّة. في لبنان، الوطنُ سَبقَ نشوءَ الدولة، والصيغةُ سَبقت كتابةَ النظام، والميثاقُ سَبقَ وضعَ الدستور. وبالتالي، فــ”المكوّناتُ الطامحةُ” تَربُط ولاءَها للوطنِ بدورِها في الدولة، والتزامَها الصيغةَ بحِصّتِها في النظام، واحترامَها الميثاقَ بصلاحيّاتِـها في الدستور.
تلبيةُ هذه “الروابطِ ـــ الشروط” تؤدّي إلى مؤتمرٍ تأسيسيٍّ يَنتجُ عنه نظامُ هيمنةِ العددِ، أو نظامُ فيديراليّةِ الطوائف، أو دولتان دينيّتان على الأقل، وليس دولةً موحَّدةً لأنّها قائمةٌ دستوريًّا من دونِ عناءِ عقدِ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ جديد. ولأنَّ اللبنانيّين الآخَرين سيَرفضون نظامَ هيمنةِ العددِ وسيقاوِمونه، سيجِدون أنفسَهم أمامَ التسليمِ بالتقسيمِ، أو اللجوءِ إلى الفيديراليّةِ ضمانًا لما بقي من وِحدة.
تحاشيًّا الوقوعَ في هذه الحالاتِ الثلاث، وبخاصّةٍ في التقسيم، يبدو المؤتمرُ الدوليُّ، على صعوبتِه، خَشبةَ النجاةِ الأخيرةَ، لا للبنانَ عمومًا، بل لوِحدةِ لبنان تحديدًا. حين كانت المكوّناتُ اللبنانيّةُ مختلِفةً على قضايا عاديّةٍ عَجِزت عن الاتّفاقِ في ما بينَها، فكيف الحالُ وخِلافُها اليومَ هو على قضايا مصيريّة؟ العجزُ عن الاجتماعِ هو اعترافٌ مُسبَقٌ بالعجزِ عن الاتّفاق. والعجزُ عن الاتّفاق ناتجٌ عن استحالةِ التوفيقِ بين المشروعِ اللبنانيِّ والمشاريعِ الغريبة.
تلبيةُ هذه “الروابطِ ـــ الشروط” تؤدّي إلى مؤتمرٍ تأسيسيٍّ يَنتجُ عنه نظامُ هيمنةِ العددِ، أو نظامُ فيديراليّةِ الطوائف، أو دولتان دينيّتان على الأقل، وليس دولةً موحَّدةً لأنّها قائمةٌ دستوريًّا من دونِ عناءِ عقدِ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ جديد
من مصلحةِ ممثّلي المكوّنات اللبنانيّة أن يتجاوبوا مع فكرةِ التدويل ــــ وهم في قلبِها ولا يُقِرّون ــــ لئلّا يَنعقدَ المؤتمرُ الخاصُّ بلبنان من دونِ لبنانّيين. فسقوطُ لبنان وتحوّلُه مساحةً سائبةً ودولةً فاشلةً بالمفهومِ الدولي، يُشكّل خطرًا على الأمنِ الإقليميِّ لاحقًا، ما يضاعِفُ فرصَ تدويلِ القضيّةِ اللبنانيّة من دون طلبٍ لبنانيّ. وأصلًا، توجدُ إشكاليّةٌ في اختيارِ مَن يَمثِّلُ اللبنانيّين في المؤتمرِ الدوليّ. فلا مكانَ للسلطةِ الشرعيّةِ ما لم تَتغيّر أو تُغيّر خِياراتِها وسياستَها وأداءَها، ولا مكانَ للطبقةِ السياسيّةِ ما لم تُفرِز شخصيّاتٍ جديدةً، ولا مكانَ لجماعاتِ الثورةِ ما لم تتّحِد وتَنتقِ الأفضلَ من بينِها. وبالمقابل، لا الدولةُ ستُسهِّلُ انعقادَ المؤتمرِ بدونها، ولا الطبقةُ السياسيّةُ ستتغاضى عن تنحيتِها عن الحضور، ولا جماعاتُ الثورةِ ستَقبلُ أن تَتمثّلَ بالسلطةِ وبالطبقةِ السياسيّة، فالمؤتمرُ هو للأجيالِ الطالعةِ وليس للّذين أسقطوا لبنان.
من مصلحةِ ممثّلي المكوّنات اللبنانيّة أن يتجاوبوا مع فكرةِ التدويل ــــ وهم في قلبِها ولا يُقِرّون ــــ لئلّا يَنعقدَ المؤتمرُ الخاصُّ بلبنان من دونِ لبنانّيين. فسقوطُ لبنان وتحوّلُه مساحةً سائبةً ودولةً فاشلةً بالمفهومِ الدولي، يُشكّل خطرًا على الأمنِ الإقليميِّ لاحقًا
إقرأ أيضاً: تكاملُ اللامركزيّةِ والتدويل
الأحداثُ تتسارعُ وتأخذُ طابَعَ المواجهةِ في الـمِـنطقةِ ولبنان خلافًا لما كان متوقّعًا بعد انتخابِ جو بايدن. ظنَّ البعضُ أنَّ التطوراتِ رهنُ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأميركيّة، فإذا بها أيضًا رهنُ الانتخاباتِ النيابيّةِ الإسرائيليّةِ في 23 آذار الجاري، والرئاسيّةِ الإيرانيةِ في 18 حزيران المقبل. فطهران لا تريد العودةَ إلى الاتّفاقِ النوويِّ قبل انتخاباتِها لكي لا تَصبَّ العودةُ في مصلحةِ الإصلاحيّين على حسابِ المتطرّفين القريبين من خامِنئي. لكنْ من الآن حتى حزيران، جميعُ الاحتمالاتِ واردةٌ، خصوصًا أنَّ بموازاةِ الصراعِ الأميركيِّ/الإيرانيّ، يَبرزُ صراعٌ أميركيٌّ/إسرائيليٌّ خطير. وإذا كان الصراعُ الأوّلُ وضعَ المنطقةَ في إطارِ التوتّرِ الأمني، فالصراعُ الأخيرُ قد يَضعها أمام احتمالِ الحرب.