“إرفعوا الكِمامات عنكم، دعوني أرى وجوهكم الجميلة، وأتيحوا لنا النظر في عيونكم، فلغتها هي الأجمل”.
بهذه العبارة الوجدانية خاطب البطريرك بشارة الراعي زائريه الآتين ضمن وفد “لقاء سيدة الجبل” و”التجمّع الوطني” و”حركة المبادرة الوطنية”، بعد أن استقرّوا في أماكنهم، وكأنّه يعبِّر عن شوقه إلى اللبنانيين وإلى التواصل معهم في ظلّ تساقط الأزمات عليهم من دون توقّف.
لمس الحاضرون أنّ بطريرك لبنان يعيش همّ البلد بكلّ تفاصيله، وهو بكلماته الهادئة الرقيقة اختصر الموقف، وشرع في النقاش حول تداعياتها المصيرية المهدِّدة للكيان، وحول كيفية الخروج من هذا النفق، فكان لا بدّ لبكركي من إضاءة شمعة الاستدلال على الطريق، وكان نداء سيّدها باستدعاء مساعدة المجتمع الدولي، لإخراج بلد الأرز من وضعيّة الرهينة وتحريره لاستعادة عافيته: سيادة، ومؤسسات دستورية واجتماعًا واقتصادًا، وصحةً وثقافة وتعليمًا.
سمع البطريرك باسم وفد “سيدة الجبل” و”التجمّع الوطني” و”المبادرة الوطنية”، على لسان الدكتور رضوان السيد، كلمة وجدانية وطنية جمعت شَتات أفكار اللبنانيين الذين يرزحون تحت وطأة الأزمات المتوالدة، معلنًا الوقوف إلى جانب البطريرك الراعي في مبادرته.
وتلاقى رأي البطريرك والوفد على أهمية حثّ الأسرةِ الدولية على الوفاءِ بالتزاماتها تجاه لبنان، ومنها تنفيذَ القرارات الدولية المتعلّقة بسيادة لبنان، لا سيما القرار 1701 الذي نصَّ في مقدّمتِه على استنادِه إلى مرجعيةِ اتفاقِ الطائف، فضلًا بالطبع عن القانون الدولي.
لمس الحاضرون أنّ بطريرك لبنان يعيش همّ البلد بكلّ تفاصيله، وهو بكلماته الهادئة الرقيقة اختصر الموقف، وشرع في النقاش حول تداعياتها المصيرية المهدِّدة للكيان، وحول كيفية الخروج من هذا النفق
تكتسب مبادرة البطريرك التراكميّة، منذ دعوته إلى تحرير الشرعية، وصولًا إلى الدعوة إلى المؤتمر الدولي، أهميتها من منطلقات عدّة، أهمها التوقيت: فقد جاءت في زمن ساد خلاله اليأس والقنوط من أيّ نهضة وطنية تمتلك أسباب الصمود والاستمرار، بعد الضربات القاصمة التي تلقّتها ثورة 17 تشرين، وبعد تعسّر ولادة جبهة معارضة فاعلة، في ظلّ التنافر الحاصل وسيطرة الحسابات المتناقضة بين القوى والأحزاب المرشحة طبيعيًّا لتشكيل هذه الجبهة.
ومع انكفاء دار الفتوى كمرجعية وطنية لها دورها في المِحن التي تضرب الكيان، أدرك الجميع أنّه لم يعد هناك من سقفٍ جامع وعالٍ سوى بكركي، التي ما زالت تحتفظ بمرجعيتها الدينية وبظلالها الوطنية الوارفة، فكانت مواقف البطريرك الراعي، لحظة وطنية بامتياز، أعادت الأمل بإحياء مواجهة وطنية من أجل قيامة الدولة، بعيدًا عن النزعات الطائفية والمذهبية التي حاول المتضرِّرون من مواقف البطريرك إشاعتها والبناء عليها في السياسة والإعلام.
شاهد البطريرك الراعي كيف تحوّل موقع رئاسة الجمهورية إلى موقع معزول داخليًّا وخارجيًّا، وكيف يتعرّض هذا المقام لفقدان الكثير من هيبته ووقاره عند اللبنانيين، فتجاوز مسألة استقالة رئيس الجمهورية إلى البحث في مصير الجمهورية نفسها، وفي ذلك طيٌّ لمرحلة محاولات الإصلاح المباشرة مع الرئيس ميشال عون، بعد أن وصل إلى القناعة التامة بعدم جدوى محاولاته لحماية الرئاسة من الشطط الحاصل.
وبعدما أطفأ نظام “حزب الله” الحاكم كلّ محطات الاتصال بالعالم الخارجي، وبعد خسارة لبنان علاقاته الدولية، وهي إحدى أهمّ مميزاته التي فقدها بفضل هذا النظام، تحوّلنا إلى جزيرة معزولة، لا يزورها سوى غربان الممانعة، ولم يعد للبنان متنفَّسٌ خارجيّ سوى بكركي، لتعيد إنعاش علاقاتنا بالمجتمع الدولي، وترسل نداء الاستغاثة يستدعي أصدقاء لبنان من أجل مساعدته في الخروج من “برمودا السياسي” الذي يغرق في أمواجه المتلاطِمة.
مع انكفاء دار الفتوى كمرجعية وطنية لها دورها في المِحن التي تضرب الكيان، أدرك الجميع أنّه لم يعد هناك من سقفٍ جامع وعالٍ سوى بكركي، التي ما زالت تحتفظ بمرجعيتها الدينية وبظلالها الوطنية الوارفة
ترجمت بكركي هذا المسار بالمواقف المعلنة، وبفتح أبوابها أمام المجموعات السيادية والناشطين الباحثين عن سقف يستظلّون به، بعيدًا عن الاستقطاب الحزبي أو الطائفي. ولهذا وجدنا أنّ المسلمين يُقبلون على زيارة سيّدها بمقدار المسيحيين، في مشهد يستعيد ذكرى ومواقف البطريرك الراحل مار نصرالله صفير، وهو المشهد الذي يتوقع أن يتجدّد اليوم السبت في لقاء التضامن الشعبي مع سيد بكركي.
إقرأ أيضاً: لجبهة وطنية لتحرير الشرعية
بين كلمات السياسة والنقاش حول المصير، كانت عيون البطريرك تبحث عن التلاقي الإنساني العميق مع الذين يؤيّدون أفكاره، ومع من يعارضونها، لكنه يكتشف يومًا بعد آخر، أنّ هناك فئة باتت تتعامل مع لبنان كرهينة لصالح المرجعية التي حوّلتها إلى فئة باغية، لا ترى سوى السلاح وفائض القوة طريقًا لفرض هيمنتها، وصبغ لبنان بلونها الأصفر واستبعاد سائر تلاوين الطيف اللبناني.
كانت معبِّرة جدًّا عبارة البطريرك الراعي، في سياق تقديمه الأسباب الموجبة للدعوة إلى المؤتمر الدولي من أجل لبنان، إذ أعلن أسفه لأنّ اللبنانيين لم يعودوا يستطيعون النظر في وجوه بعضهم. هي عبارة تعني أنّ فريقًا لبنانيًّا لم يعد يرى أنّ أمامه شركاء في الوطن تستوجب الشراكة معهم حوارًا وطنياً جادّاً. ولم يعد هناك مكان للتواصل مع طرفٍ يريد إلغاء الآخر، فكانت إشارة الانطلاق لمسيرة جديدة نحو الاستقلال الثالث “التعبير للوزير السابق نهاد المشنوق”.