اعتذر كاتب “الموقف هذا النهار” الزميل سركيس نعوم الذي نُحب ونُقدّر، من قرّائه في مطلع مقاله المنشور يوم الخميس 11 آذار، تحت عنوان “لبنان شعوب وانفصام…وجيش تعطّله المنظومة السياسية”!، لأنّه قال في مطلعه إنّ غالبية اللبنانيين في صورة عامة، مصابة بما يسمّى طبيًّا “انفصامًا في الشخصية”، معتبرًا أنّ استعماله هذه الوصمة الاجتماعية السياسية، لا يهدف إلى الإهانة ولا الشماتة، بل التوعية.
لكنّ الكاتب نفسه، في عموده إيّاه، قبل يوم فقط (الأربعاء 10 آذار)، لم يَرَ أيّ حرج في سوق اتهامات عريضة لطائفة كبرى بالإجمال، وكذلك لدولة عربية مهمة في لبنان، مستندًا إلى توقّعات جهات أوروبية لم يذكرها، وناقلًا رواية مثيرة للقلق عن سماحة مفتي الجمهورية (سمّاه في المقال محمد دريان) الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي نفى الحديث جملةً وتفصيلًا في بيان لاحق، ما يشي بسيناريو افتراضي، كاد أن يقع، ولم يقع حتى الآن، وهو “الفتنة السنيّة – الشيعيّة”.
يقول المقال إنّ “جهات أوروبية توقّعت قبل أسابيع “نشوب حرب مذهبية شيعية في لبنان، تنطلق من العاصمة وضواحيها، ويُحتمل جدًّا أن تشمل مناطق أخرى، إما مختلَطة أو متجاورة. لكن توقّعاتها لم تتحقّق… حتى الآن”. والمعنى المُضمر أنّ الحرب المذهبية بصدد التحقّق لاحقًا، كما يوحي السياق، لأنها غير مستحيلة، وتوجد أسبابها في كلّ آن.
لم يتبنَّ الكاتب سركيس نعوم فقط “توقّعات” الجهات الأوروبية التي لا نعلم إن كانت دبلوماسية أم استخبارية أم سياسية، أم غير ذلك، وما هي صدقيّة توقّعاتها. ولا حاول إخضاعها لنقد موضوعي رصين، ولا درس إمكانات حرب من هذا النوع، ومن هي الأطراف القادرة حقًّا على إشعال حرب. بل أصبحت لديه وكأنها معلومة صلبة، لا بدّ أن تقع في زمن ما، ما دامت حوافزها قائمة.
لم يَرَ نعوم أيّ حرج في سوق اتهامات عريضة لطائفة كبرى بالإجمال، وكذلك لدولة عربية مهمة في لبنان، مستندًا إلى توقّعات جهات أوروبية لم يذكرها، وناقلًا رواية مثيرة للقلق عن سماحة مفتي الجمهورية
وإلى ذلك، استبطن في موقفه، المستند إلى المصادر، اتهامًا مباشرًا لجهة لبنانية بأنها متهوّرة، هم أهل السنّة إجمالًا، وخصوصًا تلك الشخصية السنيّة المتشدّدة سياسيًّا، (ولم نعرف إذ كان يقصد الرئيس فؤاد السنيورة أو الدكتور رضوان السيد) وتنويهًا لجهة أخرى بأنها حريصة متعقّلة (الشيعة عمومًا، وخصوصًا ثنائية الحزب والحركة). ثم رسم أدوار بطولة متفاوتة للسيناريو. فاحتكرت البطولةَ الثنائيةُ الشيعيةُ لأنها بحسب المقال، تحرص على تلافي استدراجها إلى حرب مذهبية من طرف جهة أو حليف من داخل لبنان. وبعد ذلك، تتدرّج مراتب البطولة نزولًا.
فالمفتي بحسب زعمه، رفض تقديم الغطاء لها، حرصًا على وحدة المسلمين، وعلى الاستقرار، ولأنه في البلد “فقر وجوع”، علماً أنّ هذه العبارة الأخيرة، تثير الالتباس، والمعنى المفهوم بالمفارقة، أنه لولا الفقر والجوع، لكانت استجابة المفتي لدعوة الفتنة محتملة. أما الرئيس المكلّف سعد الحريري، فيرفض الحرب لأسباب عملية، أخرى، أولًا: لأنها تدمّر الفريقين: السُنّة والشيعة معًا، كما أنها ثانيًا تُرضي الطرف المسيحي، حليفه السابق وشريكه في التسوية الرئاسية، الذي يرى مشكلته في السُنّة عمومًا، ويريد حسم الصراع معهم عبر الحليف الشيعي، ثم يأتي أخيرًا في سلّم البطولة، رؤساء الحكومات السابقون، لأنهم تمايزوا برأي نعوم عن خطاب البطريرك الراعي، في مسألتَيْ الحياد والتدويل. فهم لا يتطابقون مع بكركي في مفهوم الحياد ولا في حيثيات المؤتمر الدولي أو مآلاته. وهم في ذلك، ابتعدوا عن تأييد خطاب الراعي صراحة، وعقدوا صفقة مزعومة “كما يرجّح متابعون”، على حدّ تعبير المقال مع الثنائية الشيعيّة لمنع الفتنة. والمقال في أيّ حال، لم يوفّر الحريري ولا رؤساء الحكومات السابقين، من تهمة التشدّد، وأنهم وحدهم قادرون على جرّ السُنّة إلى الحرب المذهبية، أو إلى التسوية فالسلام، لكنّهم “أكثر حكمة وتعقّلًا” من المتهوّرين في ساحاتهم، وخارجها.
المقال حافل بالمفارقات على غير عادة سركيس نعوم في مثل هذا “الموقف”. وكأنه كُتب في التاريخ نفسه، لكن في العام الماضي، قبل أيام قليلة من ذكرى 14 آذار، وقبل أشهر قليلة من صدور حكم المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري (18 آب 2020).
في ذاك الوقت، كان الترقّب سيّد الموقف. ومن الطبيعي أن تنتشر توقّعات بصِدامٍ ما، في مكان ما. لكن ليس بالشكل ولا بالحجم الذي ساقه المقال، بعد عام كامل. فهل الزمن الآن، وبعد أن دار دورته، وجرت مياه كثيرة في بحر السياسة اللبنانية المتقلّبة، زمن فتنة سنيّة – شيعيّة، وقد ضعف الاستقطاب السنّي مع ضمور الزعامة الواحدية، وانتشر في الأفق انقسام أفقي لا يُستهان فيه، بين من يملكون ومن لا يملكون، بين من نَهَبوا ومن نُهبوا، أقصد انتفاضة 17 تشرين الأول، عام 2019، والتي ما تزال جذوتها تحت الرماد؟
وهل ما زال التناقض الأساسي هو بين السنيّة السياسية والشيعيّة السياسية، بعد انفجار المرفأ في 4 آب العام الماضي، (أسبوعان قبل صدور حكم المحكمة الدولية)، والضرر الواقع بشكل رئيس هو على المسيحيين الذين مال أكثرهم في السابق مع التيار الوطني الحرّ في حلف الأقليات، مع دمار مناطق بيروتيّة ذات غالبية مسيحيّة واضحة؟ ولماذا تصعيد فكرة الصراع السنّي – الشيعي إلى السطح، بعد خطاب البطريرك بشارة الراعي في بكركي في 27 شباط المنصرم؟ وهو الذي تبنّى بشكل كامل شكلًا ومضمونًا، الموقف السيادي “المتهوّر” لبعض رموز السياسة مسيحيين ومسلمين.
المفتي بحسب زعمه، رفض تقديم الغطاء لها، حرصًا على وحدة المسلمين، وعلى الاستقرار، ولأنه في البلد “فقر وجوع”، علماً أنّ هذه العبارة الأخيرة، تثير الالتباس، والمعنى المفهوم بالمفارقة، أنه لولا الفقر والجوع، لكانت استجابة المفتي لدعوة الفتنة محتملة
بدا المقال، في “غير كوكب”، وفي زمان غير الزمان. بل إنّ “الموقف” من ناحية مهنيّة صرف، متناقض بين أوله وآخره، وفي سياقه المكاني كذلك. يقول نقلًا عن الجهات الأوروبية من دون أن يكشف هويتها ولا تهافت توقّعاتها، إنّ الحرب المزعومة ستنفجر أولًا في بيروت وضواحيها، ثم تنتقل إلى المناطق الأخرى. في حين أنّ الموعد المضروب في موقع السيناريو المزعوم، أي بيروت، هو أبعد ما يكون عن توقّعات الجهات المجهولة. وعلى نحوٍ خاص، لأنّ زعيم “تيار المستقبل”، ليس بهذا الوارد، لأسباب عدة، من أهمها، وهو ما لم يذكره المقال، أنّ الحريري هو شريك سياسي للثنائية الشيعية. فمن سيُطلق الحرب إذاً؟
ثم عندما يتناول أهم أسباب استبعاد وقوع الحرب، يجعل في الدرجة الأولى، حرص الثنائية الشيعية على عدم الانجرار إلى أيّ حرب مذهبية يتمناها حليفه المسيحي، لضرب التوازنات الطائفية والدستورية مرة واحدة. وهذه هي إشارة واضحة من المقال، ولو لم يقصد ذلك في السياق، بأن من يملك قرار الحرب والسلم في الداخل ومع الخارج، أي إطلاق حرب مذهبية أو حرب إقليمية، ليس بيد أهل السُنّة بكل قواهم، سواء من صنّفهم المقال بالتشدّد تارة أو بالتهوّر تارة أخرى.
بالطبع، ليس المقال مجرّد تمرين ذهني، ولا حساب احتمالات رياضية، لفتنة سنيّة – شيعيّة، لا تغيب عن بال المحلّل، وهو الذي يقرأ اللبنانيّين على أنهم شعوب منفصلة، تتقارب وتتباعد، تتسالم وتتحارب. لكنّ الموقف الممتطي ظَهْر “معلومات”، يستهدف جهات داخلية وخارجية معلومة يتهمها بالتهوّر، وبمحاولة إشعال الفتنة في لبنان. وهو في هذا، يرى الخطر في جهة واحدة فقط، لأنها “متهوّرة” في جوهرها، فيما الجهة المقابلة، “متعقّلة” في أساسها، مهما صدر عنها من مواقف استفزازية تجاه الداخل والخارج أو شعارات مسيئة في الشارع.
إقرأ أيضاً: نقاش متأخّر مع جهاد الزين: هل تسقط إيران في لبنان؟
إنّ مجرّد التفكير بهذه المنهجية الأُحادية يُسقط عن “الموقف” موضوعيّته. ويبدو ذلك على نحوٍ خاص حين تفكيك المقال إلى عناصره الأساسية، ثم ترتيب الأحداث كما تخيّلها كاتب السيناريو:
هناك شخصية سنيّة متشدّدة سياسيًّا، باتت محورًا في المشهد. وهي تشكّل “عقدة”. ومن حولها تدور الأحداث، وتُطبخ المعلومات بشأنها على لسان جهات أوروبية غير معلنة. المواقف الحادة لهذه الشخصية تثير القلق، في الساحة السنيّة الرسمية تحديدًا. ثم يحدث لقاء بين سفير الدولة العربية المهمة مع سماحة المفتي. في هذا اللقاء، يرفض المفتي، بحسب الرواية، أن يكون مؤيدًا أو داعمًا أو راعيًا لفتنة سنية – شيعية. وهذا يعني أنّ هذا “السفير” (وهو يقصد السفير السعودي في لقائه الأخير بالمفتي)، يطلب من المفتي تقديم الغطاء الديني الرسمي لفتنة آتية لا محالة. هنا، تبرز “العمامة”، فتحتلّ الفضاء الرمزي للمقال. المفتي وفق السيناريو، لا يقبل أن يكون مثل تلك الشخصية السنيّة، لكن بلا عمامة. بل هو مستعد لترك عمامة المفتي، ولا يكون في مكان الشخصية المشار إليها.
الواقع مختلف طبعًا عن السيناريو المتخيّل، وشخصيات السيناريو لا تطابق الواقع وشخصياته، وإن بدت متشابهة أحيانًا. لكنّ المحلّل بحنكته، لا يتحدّث عن الوقائع بل عن مآلات المواقف كما يراها أو يتوقّعها. فلا يوجد سفير عربي يدعو إلى فتنة سنية – شيعية، فضلًا عن أن يطالب المفتي برعايتها. ولا توجد شخصية سنيّة متشدّدة تدعو إلى الفتنة، إلّا إن كانت مطالبتها بتطبيق الشرعية الوطنية (اتفاق الطائف والدستور) والشرعية العربية والدولية، تعني الفتنة بنظر صاحب “الموقف”. بل الحديث “المتوقّع” هو عن دعوة البطريرك إلى تحقيق السيادة الوطنية بمؤتمر دولي، والمواقف المنتظرة من القيادات السنيّة. وتبعًا لذلك، تتدرّج سردية البطولات المشار إليها على التوالي. والمعادلة هي التالية: كلما حيّد القادة السُنّة أنفسهم عن دعوة البطريرك الراعي إلى الحياد وعن التدويل، كانت الفتنة السنيّة – الشيعيّة محيّدة أو بعيدة، والعكس صحيح.