ليس الخلاف الحالي على تشكيل الحكومة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، خلافاً كلاسيكياً، تحسمه نصوص الدستور، ويحكمه السلوك الاعتيادي والموزون للرجل السياسي في نظام برلماني، لا رئاسي ولا مجلسي. بل هو في جوهره، نزاع دستوري تأسيسي. وفي صبغته، صراع طائفي استقطابي. وفي بُعده الكياني، رقصٌ على أنقاض دولة.
فعلى الرغم من أنّ تعديلات الدستور عام 1990، قد ثبّتت المعالم العامة للأعراف الدستورية منذ الاستقلال، في مجال تشكيل الحكومة، وصلاحيات رئيس الجمهورية بإزاء رئيس الحكومة، عند تكليفه، ولدى تشكيله الحكومة، وفي ممارسة صلاحياته، (كانت المادة 53 قبل التعديل تنصّ على أنّ “رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويختار من بينهم رئيساً ويقيلهم..”) إلا أنّ الرئيس ميشال عون لا يكتفي بالالتفاف على تلك التعديلات، وممارسة عمله وكأنه في نظام رئاسي غير معلن، (بل كان النظام السابق أكثر من ذلك)، قبل اتفاق الطائف عام 1989، بل إنه يتجاوز حتى الأعراف الدستورية غير المكتوبة قبل تعديل الدستور، ويهدّد التوازنات الطائفية، بمحاولة فرض رأيه الخاص، عمّن يريده رئيساً للحكومة أو لا يريده، بغضّ النظر عن تسمية مجلس النواب للرئيس المكلف من خلال استشارات مُلزمة له.
النظام البرلماني اللبناني الحالي هو كما تنصّ عليه الفقرة “ج” من مقدمة الدستور: “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية”. ومن بديهيات النظام الديمقراطي البرلماني، أن تحكم الأكثرية وتعارض الأقلية، لا أن تتحكّم أقلية برلمانية بتشكيل الحكومة، كما يحدث الآن، وبتعطيل من رئيس الجمهورية، في وقت عصيب اقتصاديًّا وماليًّا، إن لم نقل إنّه في وقت يختفي لبنان عن الخريطة
وهنا يستغلّ رئيس الجمهورية ملابسات النصوص الدستورية المعدّلة، بل تداخلات الميثاق الوطني عام 1943 ووثيقة الوفاق الوطني عام 1989، والنصوص المتشابكة في الدستور المعدّل عام 1990، فيما يتعلّق بصلاحيات رئيس الجمهورية عامة وفيما يتعلّق بتشكيل الحكومة خاصة، والتي صيغت بطريقة تفترض حسن النية، من أجل الانقضاض عليها، والانتقاص من صلاحيات البرلمان ومن قدرة الرئيس المكلّف في آن.
فالبند الثاني من المادة 53 المعدلة، ينص على أنّ رئيس الجمهورية يسمّي رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يُطلعه رسمياً على نتائجها. فالكتل النيابية والنواب المستقلون، قاموا بعملهم الدستوري، فاختاروا مرشحهم لرئاسة الحكومة. فما معنى التشاور مع رئيس مجلس النواب قبل تسمية رئيس الحكومة المكلّف رسمياً؟ وما الذي يمكن أن يتغيّر، ما دامت الاستشارات مُلزمة له ولرئيس مجلس النواب؟ لا معنى له سوى مجاملة المقامات في مسألة تشكيل السلطة التنفيذية، ما يفتح آفاقاً لشياطين التفاصيل المملّة. كان المطروح انتخاب رئيس الحكومة مباشرة من البرلمان، من دون هذا اللف والدوران، لكن اختيرت صيغة الاستشارات النيابية المُلزمة لمنح أدوار معنوية لرئيسي الجمهورية ومجلس النواب في هذه المسألة، لإشعار رئيس الحكومة بأنه جاء نتيجة اتفاق بين الرئيسين الأوّل والثالث.
وإن كان البند الثاني من المادة المذكورة لا يتيح لرئيس الجمهورية التملّص مما فاضت عنه حفلة الاستشارات النيابية واللقاءات المتتابعة في قصر بعبدا، إلا أن نصّ البند الرابع من المادة عينها، أي 53، يكبّل رئيس الحكومة المكلّف بتوقيع رئيس الجمهورية الذي “يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”، أي يصبح السؤال: من يشكّل الحكومة فعلًا؟
الرئيس المكلّف هو الذي يشكّلها رسمياً، ورئيس الجمهورية يمكن أن يعطّلها ضمنياً بالامتناع عن توقيع مرسومها. سلطة التشكيل توازيها سلطة التعطيل. ما أُعطي الرئيس المكلّف بيد، أُخذ منه بيد أخرى. إلا أنه لو كان رئيس الجمهورية متجرّداً فوق الأحزاب والطوائف، ولابساً دور الحَكَم بين السلطات، وهو رمز البلاد، كما توحي به المادة 49 من الدستور: “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن”، لما كانت هناك مشكلة. لكنّ صورة الرئيس مختلفة تماماً، وهو ما فتح المجال للمطالبة باستقالته.
لقد نشأ بعد اتفاق الطائف وضع أكثر توازناً داخل السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعاً، وكذلك بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن بقي الرئيس المكلّف محكوماً بالتوافق مع رئيس الجمهورية لإطلاق سراح الحكومة. وهو وضع دستوري غير مريح وغير سويّ. كان رئيس الجمهورية في الدستور القديم، يشكّل الحكومة منفرداً، ويُقيلها متى أراد. وكان بمقدوره أيضاً حلّ البرلمان متى شاء. ومع ذلك، لم يكن قادراً ما بين 1943 و1990، نظراً للتوازنات الطائفية والظروف السياسية، على أن يكون المَلِك المُطلق.
نصّ البند الرابع من المادة 53، يكبّل رئيس الحكومة المكلّف بتوقيع رئيس الجمهورية الذي “يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”
إنّ الرئيس المكلّف يأتي الآن نتيجة استشارات نيابية مُلزمة، لا باختيار رئيس الجمهورية له. والمعنى أنّ مجلس النواب هو المخوّل وحده بمنح الثقة للحكومة الجديدة أو نزعها. والمفترض بدور رئيس الجمهورية أن يكون إيجابياً في تشكيل الحكومة، وأن يجسّد وحدة الوطن، في دعوته الرئيس المكلّف لمراعاة التمثيل الطائفي والمناطقي في تشكيلته، وفق مبدأ “العيش المشترك” المنصوص عليه في الفقرة ي من مقدمة الدستور. لا أن يفرض عليه حكومة توافقية تحاصصية حزبياً، في نظام برلماني. (بممارسات الرئيس عون، باتت ديمقراطية ابتزازية تعطيلية، لا توافقية كما نظّر لها الدكتور أنطوان مسرّة). إذ إنّ النظام البرلماني اللبناني الحالي هو كما تنصّ عليه الفقرة “ج” من مقدمة الدستور: “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية”. ومن بديهيات النظام الديمقراطي البرلماني، أن تحكم الأكثرية وتعارض الأقلية، لا أن تتحكّم أقلية برلمانية بتشكيل الحكومة، كما يحدث الآن، وبتعطيل من رئيس الجمهورية، في وقت عصيب اقتصادياً ومالياً، إن لم نقل إنّه في وقت يختفي لبنان عن الخارطة.
فإن كانت التسمية البرلمانية ملزمة لرئيس الجمهورية، حتى لو حملت اسم شخص لا يرغب به، فهل يحق له اعتباطاً تعطيل مهمته، أو رفض التوقيع على تشكيلته، أو فرض حصص وزارية عليه، بل إلزامه بتلبية رغبات رئيس كتلة برلمانية واحدة بعينها، يرأسها صهره، لمنحها الثلث المعطل؟
هذا المطلب غير دستوري، أي منح الثلث المعطل لأي جهة ولا سيما إن كانت كتلة نيابية طائفية واحدة، ومن باب أولى إن كان يتضمّن وزراء تابعين لرئيس الجمهورية. (راجع رأي الدكتور خالد قباني عن دستورية اتفاق الدوحة عام 2008، في مقاله الأخير: “آلية تشكيل الحكومة في الدستور والملابسات” الصادر في جريدة “النهار”). فهنا يستعيد رئيس الجمهورية سيطرته المطلقة على الحكومة بطريقة غير مباشرة. ويُفضي ذلك مباشرة إلى انتقاص صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ويقوّض قدرته على تمثيل سياسات الحكومة، إذ هو بحسب المادة 64 من الدستور: “رئيس الحكومة، يمثّلها، ويتكلّم باسمها، ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء” .فكيف يقوم بدوره، إن كان مهدَّداً بإسقاط حكومته في أي لحظة من أقلية وزارية ونيابية تمسك بالثلث المعطّل، بل حتى من طرف رئيس الجمهورية مُواربةً؟ وثانياً، لأنه إن كان رئيس الحكومة في النظام الطائفي التوافقي يمثّل أهل السنة في الحكم، فإن الانتقاص من هذا المقام تحديداً، هو انتهاك لحقوق طائفة كبرى ودورها في النظام، ما دمنا منذ عام 1926 في المرحلة الانتقالية بامتياز بحسب تعبير “وزير الفِتَن” الدستورية سليم جريصاتي.
إقرأ أيضاً: لا حكومة: إيران تريد “ثمن” المبادرة الفرنسية
أما فرض مهلة محدّدة لتشكيل الحكومة على الرئيس المكلّف، فله تداعيات سياسية وقانونية عدة. فخضوع الرئيس المكلّف لمهلة تشكيل محدّدة، يجعله أسير مجلس النواب وكتله المختلفة من جهة، وأسير رغبات رئيس الجمهورية من جهة أخرى. وعليه، لا يكون رئيس الحكومة المكلّف حرّاً في خياراته، بل مقيداً برغبات متضاربة من جهات سياسية مختلفة، لا سيما من طرف رئيس الجمهورية، لأنه الأقدر على الإفادة من هذا الوضع. وهذا يعني دستورياً، ميلان النظام إلى أن يكون نظاماً مجلسياً من جهة، أي ترجّح فيه السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، أو أن يكون نظاماً رئاسياً، من جهة أخرى، أي ترجح فيه سلطة رئيس الجمهورية على كلٍّ من رئيس مجلس الوزراء ومجلس النواب. وهذا الاختلال الكبير لا يمكن حلّه إلا بورشة دستورية تسدّ كلّ الثغرات، بحيث تُفرض مهل دستورية متوازية على كلّ الرؤساء وكل الوزراء وكلّ السلطات، من أجل حُسن سير الدولة.