حملت زيارة البابا فرانسيس المهمّة العراق، أبعادًا تارخيّة ودينيّة واجتماعية ورمزية. فكل مكان مرّ فيه يحمل بعدًا تاريخيًا أو دينيًا، وفي كل لقاء أو قدّاس أجراه أو عقده، نجد أبعادًا روحية مميّزة ورسائل من الماضي وإلى المستقبل. وإن كان اللقاء الخاص مع المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف الأشرف، له بعد مميّز شخصيًّا ودينيًّا وسياسيًّا. وكما قال البابا بعد عودته عن اللقاء: “لقد كان لقاءً روحيًّا مميزًا، واستفدت منه كثيرًا”.
لقد زار البابا خمسة مواقع ومناطق، ولكلّ منها رمزيّة خاصّة:
في بغداد أولًا: كنيسة سيدة النجاة
في اليوم الأوّل، وبعد الاستقبال الرسمي المميّز في المطار والقصر الجمهوري، شارك البابا فرنسيس في قدّاس في كنيسة “سيدة النجاة” الكاثوليكية في الحيّ التجاري الرئيسي في حيّ الكرادة. وألقى كلمة توجيهيّة للآباء والكهنة.
هذه الكنيسة تعرّضت في 31 تشرين الأوّل 2010 لهجوم من مجموعة إسلاميّة متشددّة تابعة لتنظيم “القاعدة”، قتلت 44 من المصلّين وكاهنَيْن وسبعةً من قوات الأمن، في واحدة من أعنف الهجمات على الطائفة المسيحية في العراق. وتحمل الآن النوافذ الزجاجية الملونة في الكنيسة، أسماء الضحايا، فيما كُتبت رسالة تحدٍّ فوق المذبح تقول: “أين نصرَك يا موت”؟.
كأنّ الزيارة كانت جوابًا على هذا السؤال، بالثوب الأبيض الذي دخل به البابا، حاملًا رسالة السلام. ولربّما كانت رسالة تحدٍّ أيضًا، تقول في ما تقوله، إنّ التطرّف يأتي ويذهب، وإنّ المسيحيين باقين في أرضهم، وثابتين في العراق.
في اليوم الأوّل، وبعد الاستقبال الرسمي المميّز في المطار والقصر الجمهوري، شارك البابا فرنسيس في قدّاس في كنيسة “سيدة النجاة” الكاثوليكية في الحيّ التجاري الرئيسي في حيّ الكرادة. وألقى كلمة توجيهيّة للآباء والكهنة
وقبيل زيارة البابا، رسم فنّان عراقي صورة للبابا على الجدران الخرسانية للكنيسة، إلى جانب حمامات بيضاء تمثّل السلام وألوان العلم العراقي.
ثانيًا: مدينة النجف الأشرف واللقاء مع السيستاني
استكمالًا لتواصله مع المسلمين، زار البابا في اليوم الثاني مدينة النجف الأشرف التي تأسست قبل 1230 عامًا، والتي تعدّ العاصمة الروحية لمعظم الشيعة في جميع أنحاء العالم. والتي تضم الضريح المهيب ذو القبّة الذهبية، قبر الخليفة والإمام علي ابن أبي طالب، وتُعتبر أهمّ حوزة دينيّة شيعيّة في العالم، وفيها مقرّات لعدد كبير من مراجع وعلماء الشيعة وأهمّهم المرجع السيد علي السيستاني.
كان لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الشيعي الكبير آية الله العظمى علي السيستاني، حدثًا نادرًا ومهمًّا، لأنّ السيستاني البالغ من العمر 90 عامًا، لا يظهر علنًا إلّا قليلًا، ونادرًا ما يستقبل الزوار. ما جعل اللقاء الثنائي أحد أبرز محطات الرحلة البابوية.
منزل السيستاني المتواضع المكّون من طابق واحد، استضاف اللقاء، ومُنِعَ معظم الصحافيين من حضور الاجتماع، مع حصول تغطية خاصّة من مكتب السيد السيستاني. وتم نشر صور اللقاء لاحقًا مع إصدار بيانَيْن عن اللقاء، واحد عن مكتب السيستاني والفاتيكان.
بعد “التحدّي” الأبيض في الكنيسة – الضحية، كان اللقاء بأبرز مرجع شيعيّ في العالم. وهو رسالة سلام أخرى إلى “المعتدلين” في العراق، لأيّ مذهب انتموا.
ثالثًا: مسقط رأس النبي إبراهيم: مدينة أور
من النجف انتقل البابا إلى أور، الواقعة في الصحراء (محافظة ذي قار)، ويعود تاريخها إلى ما قبل المسيحيّة. وقد تأسّست في القرن السادس والعشرين قبل المسيح، وأصبحت مدينة رئيسية في الإمبراطورية السومرية الأكدية القديمة.
تتميّز أور بالزقورة، وهو هيكل متعرّج يشبه الهرم، اكتُشِفَ في ثلاثينيات القرن الماضي. يُعتقد أنّ مدينة أور التي تعني “بلدة” باللغة السومرية، هي مكان ولادة النبي إبراهيم، في الألفيّة الثانية قبل الميلاد. وهو النبي الذي تنحدر منه الديانات السماوية الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية. وفي ذلك رسالة أيضًا، عن معنى “التوحيد” وعن أهمية الحفاظ على التراث العالمي، وما قبل “التوحيدي”. في شرق أخذ العنف الكثير من تراثه بالجهل والتعصّب.
وقد أقام البابا فرنسيس مراسم تجمع الأديان المختلفة مع بعض الأقليات الأصغر في العراق، بما في ذلك الأيزيديون والصابئة، بحضور ممثلين عن هذه الأديان باستثناء اليهود. وسيكون لهذه الزيارة أبعاد دينية وسياحية مستقبلية، ما سيجعلها مكانًا للحجاج والسيّاح من أنحاء العالم كافة.
رابعًا: الموصل وقرقوش
بعد مدينة أور انتقل البابا إلى محافظة نينوى الشمالية، وهي مركز الطائفة المسيحية في العراق. عاصمتها الموصل، وهي المكان الذي اختار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإعلان منه عن إنشاء دولة “الخلافة” في العام 2014. وفي الموصل، زار البابا كنيسة الطاهرة في غرب المدينة التي دمرها تنظيم “داعش”، قبل أن تهزمه القوات العراقية بعد حرب طاحنة، وأقام قداسًا مميّزًا.
بعد “التحدّي” الأبيض في الكنيسة – الضحية، كان اللقاء بأبرز مرجع شيعيّ في العالم. وهو رسالة سلام أخرى إلى “المعتدلين” في العراق، لأيّ مذهب انتموا
تشير السجلات إلى أنّ الكنيسة تعود إلى القرن السابع عشر، لكنّ بعض المؤرخين يعتبرون أنها قد تكون عائدة لألف عام. وخلال القتال في العام 2017، انهار سقف الكنيسة لكنّ الباب الملكي والأبواب القديمة الجانبية سَلِمت. وتعمل اليونسكو حاليًّا على إعادة تأهيل الكنيسة وأجزاء أخرى من تراث الموصل، من كنائس ومساجد، ويتعاون مسلمو المدينة مع المسيحيين لتشجيع العودة إلى المدينة، وهذا ما أشار إليه كاهن الكنيسة خلال القداس.
على بعد حوالى 30 كيلومترًا إلى الجنوب من الموصل، زار البابا مدينة قرقوش المعروفة أيضًا باسم بغديدة والحمدانية، والتي تتمتع بتاريخ طويل سبق المسيحية، ولكنّ سكانها اليوم يتحدثون لهجة حديثة من الآرامية، لغة السيد المسيح. وقد لحق دمار كبير بقرقوش على يد تنظيم داعش.
وفي زياراته هذه رسائل حول ضرورة تمسّك المسيحيين بأرضهم.
خامسًا: أربيل
في آخر محطات الزيارة انتقل البابا إلى مدينة أربيل في إقليم كردستان، حيث أقام قدّاسًا في الهواء الطلق في ستاد فرنسوا الحريري بحضور حشد كبير من المسيحيين.
عندما اجتاح تنظيم داعش شمال العراق، لجأ مئات الآلاف من المسيحيين والمسلمين والأيزيديين إلى إقليم كردستان العراق، الذي كان يستضيف أساسًا الأقليات النازحة إثر العنف الطائفي الذي شهده العراق خلال مراحل سابقة، تلت الغزو الأميركي للعراق.
إقرأ أيضاً: البطريرك: “التدويل” لدعم لبنان لا لسيطرة خارجية
وتضم أربيل آثارًا لمستوطنات بشرية تعود إلى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، واستمرّت لتصبح مركزًا حضريًّا رئيسيًّا في جميع أنحاء الإمبراطوريتَيْن السومريّة والآشورية. وقد أُدرجت قلعتها، وهي عبارة عن مجمّع ضخم على قمة تل يطلّ على سوق المدينة، على قائمة التراث العالمي للبشرية التي أعدّتها اليونسكو في العام 2014.
وفي كل محطة من هذه المحطات، لقي البابا استقبالًا مميّزًا وحاشدًا، وكانت وسائل الإعلام تنقل تفاصيل الزيارة، التي ستشكّل محطة تاريخية في تاريخ العراق ومستقبله.
وسيكون لبنان البلد الثاني الذي سيزوره البابا بعد العراق كما أعلن، وعلى أمل أن تكون الأوضاع في لبنان مستقرة ومهيّأة لاستقباله قريبًا.