على بعد أمتار، وفي نهاية شارع ضيّق معتم، تستطيع أن تميّز رائحة غريبة لا تشبه المكان من حولها توحي لك بأنك اقتربت من منزل المغدور لقمان سليم. حتى قبل أن تفيدك رفيقة طريقك إلى الضاحية الجنوبية “google maps” بأنّ المكان الذي تقصده أصبح إلى يسارِك. إنّها رائحة الكتب… رائحة الطبيعة، رائحة الحب، الأدب والرقيّ… تلحق الرائحة وإذا بها تصل بك إلى عالمٍ جميل، وكأنه انسلخ عن محيطه واحتفظ ببيروت القديمة، بأشجارها المعمّرة، بألوانها، أزهارها، تراثها وثقافتها، تتجلّى في هذه الكيلومترات القليلة.
المنزل نهاراً يعجّ بالمحبين، بالمراقبين أحياناً، وبالصحافيين دائماً، وكأنه طوافٌ إعلامي حول جريمة اغتالت طاقة فكرية وطنية، ولم تغتَل خصماً نبيلاً لحزب الله وحسب. ولذلك قرّرت أن أقصد منزل لقمان سليم ليلاً.
كانت في انتظارنا رشا الأمير شقيقته، السيدة الهادئة، “الراقية حتى في حزنها”، على ما أجمع عشرات من الذين رثوها. والبوصلة أن نعيد ترتيب ساعات لقمان سليم الأخيرة، وإذا بنا نجد أكثر من ذلك.
رحلة الموت الأخيرة للقمان سليم بدأت ظهر الأربعاء في 3 شباط عند ما يقارب الساعة 12 ظهراً. كانت العائلة تعلم أنّه سيتوجه إلى الجنوب لزيارة أحد الأصدقاء، وذلك قبل يوم واحد من الحادثة، خلال الموعد شبه اليومي الذي تجتمع فيه العائلة لنصف ساعة عند الوالدة سلمى مرشاق، الكاتبة والباحثة (في موعد شبه ثابت الواحدة ظهراً). يومها أبلغهم لقمان أنه لن يكون معهم في اليوم التالي، أي الأربعاء، لأنّه سيتوجه إلى الجنوب.
المنزل نهاراً يعجّ بالمحبين، بالمراقبين أحياناً، وبالصحافيين دائماً، وكأنه طوافٌ إعلامي حول جريمة اغتالت طاقة فكرية وطنية، ولم تغتَل خصماً نبيلاً لحزب الله وحسب
في الصباح الباكر من يوم الأربعاء كان التواصل الأخير بين رشا وشقيقها، عبر “فويس نوت” على واتساب: “كنت عم صبّح عليه، وحكينا بالشغل لأن عنّا مشاريع كتب عم نشتغل عليها”. عمل قليلاً في مكتبه المليء بالكتب، ومن بعدها وصلت السيارة التي استأجرها وخرج…
إقرأ أيضاً: والدة لقمان سليم: لا أسامح والله سيثأر
استفقدت رشا شقيقها عند الساعة 7 مساءً: “فالبلد في حال منع تجوّل ولذلك بدأت أقلق بسبب تأخرّه، أرسلت له رسالة واتساب لم يجِب عليها، رسالة صوتية لم يجب أيضاً”. تحدثت رشا عندها مع زوجته مونيكا بورغمان التي كانت قد تواصلت معه آخر مرة في تمام الرابعة والنصف من بعد الظهر، وقالت لها إنّه لم يجب على رسائلها المسائية أيضاً: “اتصلنا برفيقه شبيب الأمين للاطمئنان وقال لنا أنه غادر قبل قليل، بين الساعة 8 و 8 وربع، وكان مرتاحاً، وشرب شاي وكان صاحياً.. (ما تعتلو هم هلأ بيجي)”.
مرّت طويلة دقائق الانتظار، ثمّ صارت ساعات، على رشا ومونيكا زوجة لقمان، اللتين قررتا انتظاره على البوابة الخارجية: “فالسيارات المارّة قليلة بسبب حظر التجول وربما نستطيع تمييز لحظة وصوله بشكلٍ أسرع”. مرّت ساعة، ساعتان أو أكثر: “عاودنا الاتصال بشبيب الذي حاول طمأنتنا مجدداً، متوقعاً أنه مرّ لزيارة أحد الأصدقاء على طريقه، لكن أيّ زيارة تمنعه من الإجابة على جميع اتصالاتنا؟”.
طالت ساعات الانتظار أكثر من الطبيعي، وبدأت مرحلة الاتصال بالمستشفيات، والصليب الأحمر للتأكد من سلامة سليم وأنه لم يتعرض لحادث سير: “لم ننَم ليلتها، ولم نخبر والدتي أن لقمان لم يرجع إلا في اليوم التالي صباحاً، قبل أن أتوجه إلى لمخفر لتقديم شكوى عن اختفائه، لكن بينما كنت في المخفر اتصلت بي إحدى الصديقات الصحافيات وسألتني إن كنت أشاهد التلفزيون لأنّهم يتحدثون عن قتل لقمان، عندها تركت المخفر وعدت إلى المنزل حيث كانت الشاشات فعلاً تنقل خبر جريمة اغتيال شقيقي لقمان سليم”.
مرّت طويلة دقائق الانتظار، ثمّ صارت ساعات، على رشا ومونيكا زوجة لقمان، اللتين قررتا انتظاره على البوابة الخارجية
كان الهاجس الأكبر لدى رشا في تلك اللحظات كيف ستخبر والدتها بذلك: “ذهبت إليها وأخبرتها بطريقة صريحة ومباشرة أن لقمان قُتل، فوالدتي امرأة ذكية ومثقفة وما كان أمامي إلا أن أخبرها الحقيقة كما هي من دون مواربة أو تقسيط”. وتضيف رشا في وصف موقف والدتها الصلب: “والدتي مؤمنة بقضاء الله وتقرأ الإنجيل كل يوم قبل النوم فعزاؤها كبير”.
من بعد انتشار الخبر بدأت مرحلة التغطيات الإعلامية التي أجهدت رشا ووالدتها: “وبدأ الصحافيون يسألونني أشياء لا أعرفها، وكنت أعجز عن البكاء في اليوم الأوّل من هول الصدمة”. وكان واضحاً التعاطي الراقي للعائلة مع الإعلام والصحافة، وخلال جلسة لم تتجاوز الـ 40 دقيقة مع رشا، تلقّت الأخيرة أكثر من 3 اتصالات من صحافيين، كانت تقول عقب كل اتصالٍ مطوّل: “نحن جنود في مملكة لقمان وقضيته ونستمد قوتنا من طاقته”، وتردّد: “هذه البلاد لا تُبنى بالكراهية والقتل، لا يمكن أن نبني إلّا على أرضية محبّة، ولا نثق بأيّ تحقيق، ونعرف أنّ الحقيقة لن تظهر ولا نريدها، لأنّنا نعرفها، وإن كنّا نطالب بها فمن أجل عدالة انتقالية وليس للتشفّي بأحد، بل لمصالحة الناس ببعضها”.
أخذنا الحديث المسائي الهادئ، المثقل بدموع رشا الراقية، وابتسامتها الحزينة، إلى الإرث الثقافي الذي خلق واحة أدبية شبيهة بستينات بيروت وعزّها، وسط كل التوغّل العمراني خارج تلك الكيلومترات، فتقول: “هذا المنزل عمره 250 سنة، مرّ عليه 5 أجيال: حسن، محمود، محسن، لقمان، واليوم الأولاد”. وتتحدث بشغف عن تاريخ المنطقة أو “الضيعة” كما تحبّ أن تسميها، والتي كانت تسمى “ساحل النصارى”، وكانت تتميّز بتنوّع سكانها بين موارنة وشيعة وسُنّة، وكانت منطقة بساتين: “حافظنا على فكرة القرية رغم التمدّد العمراني ووالدي محسن تعلّم في مدارس الإرساليات المسيحية، كان محامياً ونائباً، ورفض أن يغير بمعالم هذه الأرض. ولقمان أيضاً ورث حب هذه الحديقة عن والدي، كما ورث عنه وعن والدتي حبّ الثقافة والأدب، وقرّر العودة من فرنسا بعد هجرة الوالد منذ أيام الحرب، لإحياء هذا المكان في العام 1990، وأسّس دار الجديد، وأسّس مع زوجته “أمم للأبحاث والتوثيق” و”هيّا بنا” و”الهنغار” الذي هو جزء من الحديقة، تقام فيه ندوات ومعارض ثقافية وفنية واحتضن إلى اليوم أكثر من 100 معرض… وفعلاً استطاع أن يعيد الحياة إلى هذه البقعة الخضراء النادرة المتبقية في ضواحي بيروت”.
أكثر ما تتذكره رشا عن شقيقها لقمان حبّه للقراءة والثقافة: “فهو متعلّم بعمق، درس الفلسفة، تعلّم اللغة اللاتينية واليونانية القديمة، وقرأ القرآن والشعر، وهو من بين أهم الذين كتبوا باللغة العربية وعرّبوا كتباً أجنبية، لكنه كان متواضعاً جداً ولا يحب أن يتحدث عن نفسه ومآثره”.
وتزيد في وصفه بينما تلمع الدموع في عينيها، وتفرك يديها وكأنها تعتصر الحديث بهما: “كريم، خجول، متواضع، قليل الكلام، يحب الحياة، ذكاء متوقّد، طاقة كبيرة، نشاط وديناميكية رجل موسوعي بكل ما للكلمة من معنى… خلوق حتى في انتقاداته، وهو ثروة وهم كانوا (مزوقين) اختاروا الأفضل، اختاروا الرأس لا الذيل، هو يوسفنا وأجملنا ولذلك قتلوه، أخذوه وهو على باله أن يعيش، قتلوه وهو مليئاً أملاً وطموحاً وطاقة”.
أخذنا الحديث المسائي الهادئ، المثقل بدموع رشا الراقية، وابتسامتها الحزينة، إلى الإرث الثقافي الذي خلق واحة أدبية شبيهة بستينات بيروت وعزّها، وسط كل التوغّل العمراني خارج تلك الكيلومترات
وفي الحديث عن الموت، والخوف من الموت مع تكرار التهديدات التي كان يتعرّض لها سليم، تؤكد رشا: “كنّا نعرف أنهم قريبون، وأنا كنت متوجّسة دائماً من هذه التهديدات التي بدأت قبل أكثر من 10 سنوات، وكنت أحذره دائما وأقول له (سيقتلونك) وأقول لوالدتي (سيقتلونه) وهذا ما حصل”. لكن لقمان كان دائماً ما يكرّر عبارة “الخوف من الموت موت”. فلم يكن يخاف يوماً رغم قربه ورغم معرفة العائلة أنّه قد يأتي يوم ويخرج فيه لقمان من البيت ولا يرجع إليه.
ترفض رشا الدخول في التفاصيل الأمنية، أو ما تسميه “الروايات البوليسية” وتبدي نفوراً من نشرها: “فأنا ضحية وهذه التفاصيل على الأجهزة الأمنية أن تكشفها لا أنا”.
من جهة أخرى علم “أساس” من مصادر مطلعة على القضية أن تقرير الطبيب الشرعي لم يصدر بعد وأنّه بحاجة إلى مزيد من الوقت، وأن لا آثار تعذيب على وجه لقمان، لكن الرصاصات في الدماغ كان لها وقعها على الوجه.
وتبيّن أيضاً أن هاتف لقمان سليم ليس بحوزة العائلة كما نقلت إحدى المحطات التلفزيونية نقلاً عن مصادر أمنية، بل العائلة استطاعت تحديد موقع الهاتف عبر “الآي كلاود” الخاص بالهاتف لا أكثر ولا أقل، ولا تعرف شيئاً عن الهاتف. أما استئجار لقمان للسيارة فهو كان يتعامل مع شركة تأجير سيارات في خلدة بشكل شبه دائم، وكانت تصل السيارة إلى حديقة المنزل، كون سيارته صغيرة ولا تصلح للرحلات البعيدة.
إقرأ أيضاً: جولة مع جوزيف عيساوي في منزل لقمان سليم
لن يكون هناك مراسم دفن للقمان سليم بل سيتم ذلك بعيداً عن الإعلام والضجة في مراسم متواضعة هادئة مع رجل دين كان يحبّه لقمان: “هو لم يحب يوماً البكاء والدموع، ونحن دعاة سلام لا بكاء وتفجّع وعويل” تقول رشا.
على أن تحيي العائلة ذكراه بأن تخلق مكان هادئ في حديقة المنزل: “مكان عام للصلاة، للقراءة، أو للتأمّل، سيكون حديقة مستديرة بين الأشجار المعمّرة وتتوسطها الزهور الملوّنة التي أحبها لقمان، ويتوسطها ضريحٌ كتب عليه (لقمان سليم حيّ)”.