القرض الدولي: سلامة “يريد” دولارات “الأكثر حاجةً”

مدة القراءة 5 د

بعد اتفاق حاكم المصرف المركزي مع وزير الماليّة على مصادرة دولارات قرض البنك الدولي، وسدادها لمستحقيها من الأسر الأشد فقراً بالليرة على سعر صرف يوازي 6240 ليرة للدولار الواحد، يبدو أنّ حاكم مصرف لبنان يسعى لتعميم هذه التجربة على سائر المساعدات الإنسانيّة التي تستفيد منها الدولة اللبنانيّة من الجهات المانحة، ومنها تلك التي تخص النازحين السوريين. أما سعر الصرف المعتمد لسداد المساعدات بالليرة، والذي يقل بنحو 30% عن سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء، فسيُكرّس كسعر صرف إضافي يعتمده بشكل دائم مصرف لبنان لهذا النوع من العمليات، تحت مُسمّى “سعر الصرف الإنساني”، ليزيد بذلك من فوضى أسعار الصرف المتعدّدة. علماً أنّ إجمالي المساعدات المرصودة للبنان لسنة 2021 من قبل الجهات المانحة توازي قيمتها 1.5 مليار دولار أميركي، وهي القيمة التي يضع مصرف لبنان عينه عليها اليوم.

هذا الاتّجاه ظهر مؤخّراً في رسالة وجهها الحاكم إلى وزيرة الدفاع زينة عكر، ليخاطب من خلالها المنظمات الدوليّة والإنسانيّة المعنيّة بالشأن اللبناني، وليطلب أن يكون المصرف المركزي هو الجهة الوحيدة التي تستقبل أموال المساعدات بالعملة الصعبة، معتبراً أنّ مصرف لبنان يمثّل حاليّاً المصدر الوحيد لاحتياجات التمويل بالعملة الصعبة لجميع المؤسسات اللبنانيّة العامة والمؤسسات الأخرى، وذلك من خلال دعمه السلع الأساسيّة التي يتم استيرادها اليوم بالعملة الصعبة.

أما سعر الصرف المعتمد لسداد المساعدات بالليرة، والذي يقل بنحو 30% عن سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء، فسيُكرّس كسعر صرف إضافي يعتمده بشكل دائم مصرف لبنان لهذا النوع من العمليات، تحت مُسمّى “سعر الصرف الإنساني”، ليزيد بذلك من فوضى أسعار الصرف المتعدّدة

أشار الحاكم إلى إمكانيّة إعادة النظر دوريّاً بأ”سعر الصرف الإنساني” الذي يزيد بنحو 60% عن سعر صرف المنصّة المعتمد حاليّاً لدعم استيراد السلع الغذائيّة الأساسيّة. والحجة الأساسيّة التي يعتمدها هي دراسة مختصرة لمعدلات التضخّم المتوقعة وفقاً لسيناريوهين:

1 – في حالة اعتماد سعر صرف السوق السوداء لشراء دولارات المساعدات وسدادها بهذا المعدل للمستفيدين منها، فستكون النتيجة زيادة في معدلات التضخّم بنسبة 30%، نتيجة طباعة العملة المحلية وضخها في الأسواق.

2 – أما في حالة اعتماد سعر صرف يقارب “سعر الصرف الإنساني” فالتضخّم سينخفض إلى 20% فقط.

الدراسة تؤكّد أن الإقتصاد المحلّي سيتأثّر حكماً بعمليّة طباعة النقد لسداد المساعدات بالليرة في الحالتين، ما يعني اعترافها بأثر إقتراح الحاكم على أسعار السوق، لكنّ الإختلاف الأساسي هو في نسبة التضخّم.

العديد من الخبراء أشاروا عند قراءة الدراسة إلى أن مشكلتها الأساسيّة هي تخيير اللبنانيين بين سيناريوهين: إما مصادرة الدولارات وسداد قيمتها بسعر الصرف الإنساني، أو مصادرتها وسداد القيمة بسعر صرف السوق السوداء، لكنّ الدراسة لا تأخذ بعين الإعتبار سيناريو تحييد هذه الدولارات كليّاً عن سياسات مصرف لبنان النقديّة ودفعها لمستحقيها بالدولار الأميركي مباشرةً.

مع العلم أن هذا السيناريو – الذي تجاهلته دراسة الحاكم – سيعني تخفيض التضخّم بدل زيادته، نتيجة زيادة المعروض من العملة الصعبة في الأسواق وتقليص الضغط على سعر صرف الليرة، كما سيعني وصول المساعدات إلى المستحقّين بقيمتها الفعليّة دون أي نقصان. أما أهم ما تجاهلته الدراسة، فهو غياب أي ضمانة لطريقة التصرّف بهذه الدولارات لاحقاً، خصوصاً أنّ أرقام ميزان مدفوعات، وحجم الانخفاض في إحتياطات المصرف المركزي الذي لا يتوافق مع حجم الدعم المقدّم للإستيراد، يطرحان أسئلة كبيرة حول طريقة استعمال دولارات مصرف لبنان خلال الفترة الماضية.

الدراسة تؤكّد أن الإقتصاد المحلّي سيتأثّر حكماً بعمليّة طباعة النقد لسداد المساعدات بالليرة في الحالتين، ما يعني اعترافها بأثر إقتراح الحاكم على أسعار السوق، لكنّ الإختلاف الأساسي هو في نسبة التضخّم

مصادر مصرفيّة تشير لـ”أساس” إلى أنّ مساعي الحاكم هذه ستواجه عقبات عديدة. فالمراسلة هذه ما تزال في إطار المطالب التي يقدمها الحاكم لحكومة تصريف الأعمال، لكن الحكومة ستحتاج حكماً إلى موافقات من الجهات الدوليّة المانحة قبل المضي قدماً بصيغة التمويل هذه. علماً أن الحصول على هذه الموافقات سيكون دونه العديد من الصعوبات، خصوصاً أن العديد من الجهات ستعتبر هذه الخطوة انتقاصاً من قيمة المساعدات المقدمة للفئات الأكثر الحاجة لمصلحة توفير دعم آخر يشمل جميع المقيمين دون تمييز. كما أنّ بعض الجهات غير مهتمّة فعليّاً بإعطاء مصرف لبنان وأقطاب الحكم في لبنان المزيد من الهامش والمرونة، عبر تعزيز الإحتياطات المتوفرة للدعم، قبل فرض امتثالهم لمتطلبات الإصلاح المالي من قبيل إقرار قانون الكابيتال كونترول والسير بملف التدقيق الجنائي وغيرها.

إقرأ أيضاً: خلافات “الزبائنية”.. تطيّر قرض البنك الدولي؟

تشير المصادر نفسها إلى أنّ العديد من الجهات المعنية بهذه المساعدات وقعت أساساً عقوداً مع مصارف محليّة، ووضعت آليات محكمة لتوزيع المساعدات النقديّة بالإتفاق مع المصارف، وسيكون أمام حكومة تصريف الأعمال مهمّة صعبة لإقناع هذه الجهات بتغيير هذه الآليّة والتعامل بشكل مباشر مع مصرف لبنان. وفي حين أنّ مصرف لبنان قادر على إلزام المصارف باعتماد آلياتٍ بديلة لطرق الدفع وفقاً لخطط الحاكم، سيكون من المتعذّر فرض هذه المسألة بالسهولة نفسها على الجهات المانحة.

باختصار ستكون مسألة وضع اليد على دولارات المساعدات الإنسانيّة موضع شد حبال كبير، سواء داخليّاً بين مصرف لبنان والوزارات المختلفة، أو على مستوى تفاهمات لبنان مع الجهات الداعمة، خصوصاً أن أجواء البنك الدولي توحي بأنّه لم يهضم بعد طريقة فرض عمليّة مصادرات دولارات القرض المخصّص للأسر الأكثر فقراً.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…