من حيث المبدأ، يُفترض أن تكون الموازنة هي الصكّ التشريعي الذي يقرّه مجلس النواب ليكون خارطة الطريق الماليّة للدولة، فتُجبى على أساسها الضرائب وتُرصد الإعتمادات للنفقات المختلفة. ولهذه الغاية، لا معنى للموازنة الأخيرة التي أحالتها وزارة الماليّة إلى رئاسة مجلس الوزارة، طالما أنّها تفتقد لأبسط شروط المصداقيّة في عرض الأرقام أو مقاربتها، أو في معالجة المشاكل الماليّة الداهمة، باستثناء “رفع العتب” من خلال الإيحاء بأن الوزارة أنجزت الجانب المطلوب منها في ما يتعلّق بهذا الشأن. أمّا جوهر المشكلة، فلا يتعلّق بطريقة تحضير الموازنة نفسها أو عرض أرقامها، بل بغياب أي مقاربة رسميّة للملفات الماليّة والنقديّة الأساسيّة، وهو ما يجعل من أي عمل حكومي مجرّد بهلوانيات ماليّة تملأ الوقت الضائع.
أولى إشارات عدم الجديّة في احتساب النفقات الفعليّة تكمن في احتساب سعر الصرف الرسمي القديم 1507.5 كسعر وسطي لاحتساب نفقات المؤسسات العامّة، وهو ما أدّى إلى تحجيم نفقات الموازنة مقارنة بالكلفة التي ستترتّب فعلاً خلال السنة على هذه المؤسسات. وفي حين أنّ مسألة سعر الصرف لن تؤثّر فعليّاً على قيمة بعض أبواب النفقات كالأجور والتعويضات والسلع المدعومة من مصرف لبنان، إلا أنّها ستؤثّر حكماً على الكلفة التي ستترتّب على سائر بنود الميزانيّة، وخصوصاً تلك التي تتأثّر بسعر الدولار، مثل الصيانة والمشتريات وعقود التأمين والخدمات. ولأنّ الموازنة لم تحتسب أثر ارتفاع سعر الصرف على التكاليف، لم يختلف حجم النفقات المقدّرة في موازنة 2021 عن تلك التي كانت مقدّرة منذ سنة حين جرى إقرار ميزانيّة 2020، التي بلغت نحو 18.26 ألف مليار ليرة لبنانيّة في الموازنة الجديدة، مقارنة بـ18.23 ألف مليار ليرة في ميزانيّة السنة الماضية. وبذلك تصرّفت وزارة الماليّة وكأنّ انهيار سعر الصرف لم يكن.
أولى إشارات عدم الجديّة في احتساب النفقات الفعليّة تكمن في احتساب سعر الصرف الرسمي القديم 1507.5 كسعر وسطي لاحتساب نفقات المؤسسات العامّة، وهو ما أدّى إلى تحجيم نفقات الموازنة مقارنة بالكلفة التي ستترتّب فعلاً خلال السنة على هذه المؤسسات
وحتّى في ما يتعلّق بالسلع المدعومة كالمحروقات، يعتبر الكثير من الخبراء أنّ احتساب السعر المدعوم في الموازنة، وإن عكس الكلفة المتوقّعة على الحكومة بالليرة، إلا أنّه سيعني إخفاء خسائر كبيرة على حساب ميزانيّة المصرف المركزي. فعلى سبيل المثال، وكما جرى خلال العام الماضي، خصّصت وزارة الماليّة في الموازنة سلفة تُضاف إلى النفقات العامة بقيمة 1500 مليار ليرة، لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، وهي سلفة ستُستخدم لتغطية شراء المحروقات لمصلحة المؤسسة. ومن الناحية العمليّة، ستعني هذه السلفة إنفاق ما قيمته 995 مليون دولار من الدولارات المدعومة التي ستستخدمها المؤسسة من احتياطات مصرف لبنان لاستيراد الفيول، وهي كلفة توازي قيمتها فعليّاً ما يقارب 8700 مليار ليرة إذا ما أخذنا قيمة هذه الدولارات الفعليّة. باختصار، ثمّة فارق كبير بين الكلفة المسجّلة في الموازنة وفقاً لسعر الصرف المدعوم، والخسارة الناتجة عن قيمة الدولارات الحقيقيّة، وهي كلفة ستتحمّلها ميزانيّة المصرف المركزي دون أن تعكسها الموازنة العامّة.
بمعزل عن مسألة سعر الصرف، لم تعكس الموازنة أيّاً من النفقات التي يُفترض أن تترتّب على الدولة اللبنانيّة خلال العام الحالي في إطار التعامل مع تداعيات الانهيار. فكلفة فوائد اليوروبوند وفوائد سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة غير موجودة في بنود الموازنة، ولا يوجد أي تقدير لنفقات الفوائد التي يمكن أن تترتب على الدولة بعد التفاوض مع الدائنين الأجانب والمصارف المحليّة على كيفيّة إعادة هيكلة الديون.
فافتراض أنّ الدولة لن تصل إلى اتفاق جدّي مع الدائنين بحلول السنة الحاليّة سيعني توقّع تداعيات خطيرة جدّاً. ومن ناحية أخرى لم تحتسب الموازنة أي كلفة في ما يخصّ آليات الدعم البديلة التي يجري الحديث عنها بعد توقّف دعم استيراد السلع الأساسيّة من قبل مصرف لبنان، لا بل تذهب الموازنة إلى احتساب أسعار السلع الأساسيّة وكأنّ الدعم مستمر حتّى نهاية العام، وهذا تقدير لا يتسم بكثير من الواقعيّة.
يعتبر الكثير من الخبراء أنّ احتساب السعر المدعوم في الموازنة، وإن عكس الكلفة المتوقّعة على الحكومة بالليرة، إلا أنّه سيعني إخفاء خسائر كبيرة على حساب ميزانيّة المصرف المركزي
الإيرادات المتوقّعة في موازنة 2021 لم تختلف بدورها عن تلك التي قدّرتها منذ سنة ميزانيّة العام الماضي. فقد قدّرت موازنة العام الحالي تسجيل ما يقارب 14.14 ألف مليار ليرة من الإيرادات، مقارنة بنحو 14.17 ألف مليار ليرة في موازنة السنة الماضية. مع العلم أن هذه الفرضيّة تتجاهل بدورها تراجع مداخيل الدولة بعد حصول الانهيار المالي، خصوصاً في ظل حالة الإقفال العام الحاليّة، ومع سريان القانون الذي مدّد تعليق مهل سداد جميع الضرائب والرسوم لمدّة ستة أشهر إبتداءً من شهر كانون الثاني الماضي.
وهكذا لم تتعامل معظم بنود الموازنة مع فكرة وجود الإنهيار، ولم تنطلق من أي مقاربة إصلاحيّة ترتبط به. أما البنود القليلة التي حاولت التعامل مع بعض جوانب الأزمة، فكانت أكثر جوانب الموازنة إشكاليّة وإثارة للجدل. فعلى سبيل المثال، تضمّنت الموازنة بعض البنود التقشّفيّة التي مسّت بميزانية الجامعة اللبنانيّة التي تقلّصت بنحو 10.33 مليار ليرة لبنانيّة، وببعض مكتساب موظفي القطاع العام ومتقاعديه، وهو ما أثار سلسلة اعتراضات عماليّة حادّة.
إقرأ أيضاً: طباعة الليرات تتسارع: نتيجة عكسيّة لإجراءات مصرف لبنان
كما تضمّنت الموازنة ضريبة التضامن الوطني”، التي قضت بإجراء اقتصاص بنسب تتفاوت بين 1 و2% من الودائع التي تفوق قيمتها المليون دولار أو 1.5 مليار ليرة. أما المشكلة الأساسيّة في كل هذه الإجراءات، فهي أنّها خارج إطار أي خطة أو رؤية لتوزيع الخسائر بشكل واضح، وخارج سياق أي معالجة متكاملة للملف المالي.
يشير البعض إلى أنّ الثغرات التي تم الحديث عنها كانت أمراً واقعاً مفروضاً على وزارة الماليّة، بالنظر إلى التشوهات النقديّة والماليّة التي فرضت وجود هذا التباين بين أسعار الصرف، وفي ظل غياب الخطة الماليّة الحكوميّة الكاملة التي يمكن بناء الموازنة على أساسها.
قد يصحّ ذلك، لكن يصحّ أيضاً القول إنّ وزير الماليّة نفسه كان شريكاً أيضاً في المسار الحكومي الذي أفضى إلى غياب الخطة الماليّة واستمرار فوضى أسعار الصرف وتعددها. أما الأهم، فهو أنّ النتيجة كانت موازنة لا تعكس أي توجه إصلاحي، ولا توحي بأنّ هناك انهياراً فعلاً في البلاد.