عندما رفضت طرابلس استقبال نائب البترون جبران باسيل، ثمّ عادت واستقبلته “هارباً” إلى معرض رشيد كرامي (6 تموز 2020)، دون المرور في شوارع المدينة… لم يكن ذلك لأنّه ماروني من البترون التي لطالما كانت “الفيحاء” مقصد أبنائها، ولكن لأنّه يجسّد بالنسبة إليها ذهنية طائفية في الحكم كانت وما تزال وراء تهميشها وعزلها.
كان الحريّ بباسيل، ابن البيئة الاجتماعية البترونية، التي لم تُعرف تاريخياً بالتّطرف، أن يراجع خطابه بعد ما حصل معه في جارته الشمالية. لكنّه عوض ذلك استمرّ في الممارسة السياسية نفسها المرتكزة على أخذ النظام السياسي إلى أقصى طائفيته تحت عنوان “الشراكة” والانخراط في محور إقليمي قام في الأساس على تعبئة العصبية المذهبية على امتداد المنطقة، وهي عصبية استهدفت وما تزال طرابلس بالمباشر.
ولذلك فإنّ باسيل لم يمثّل بالنسبة إلى الطرابلسيين شخصه وحسب، وإنّما السلطة الحاكمة برمّتها، التي جسّدت خلاصة السياسات الطائفية والمذهبية لأركانها الأساسيين. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يندلع من جديد سجال “حقوق المسيحيين” في وقت لم تكن قد جفّت بعد دماء الضحية عمر طيبا الذي خرج إلى شوارع طرابلس ليعبّر عن ضيق عيشه. والحال هذه فإنّ أي صدقية للمطالبة بـ”الشراكة”؟ عندما يكون المتّهمون بالإخلال بها هم الأكثر عرضة للتهميش الاجتماعي الاقتصادي والأكثر عرضة لتشويه صورتهم؟
الطامة الكبرى أنّ هذه الذهنية الطائفية للحكم ترسّخت لدى لبنانيين كثيرين من أنصار السلطة الحالية ومن سواهم. فقد باتت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني تنظر إلى طرابلس كما لو كانت في بلد آخر. فيكتفي هؤلاء، عن سوء نيّة أو عن قلّة إدراك بالصورة النمطية المعطاة لها، بالقول مرّة إنّها مدينة فقيرة، وهي الغنية أصلاً، ومرّة أخرى بأنّها مدينة يغلب عليها التّطرف، وهي لم تكن كذلك يوماً، على الرغم من كلّ التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت عليها، أسوة بمختلف الحواضر العربية الكبرى.
باسيل لم يمثّل بالنسبة إلى الطرابلسيين شخصه وحسب، وإنّما السلطة الحاكمة برمّتها، التي جسّدت خلاصة السياسات الطائفية والمذهبية لأركانها الأساسيين
ليس القصد نفي الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها كثير من أهالي وسكّان طرابلس، لكنّ إلصاق صفة الفقر بها وكأنّها صفة أصيلة هو أمر يستدعي تفكيك المعيار الذي على أساسه توسم هذه المدينة بالفقر. ففي العقل الباطني لكثير من اللبنانيين أنّ فقر طرابلس متأتٍّ من الخلفية الاجتماعية لأهلها وليس من اختلال السياسات الإقتصادية للدولة على مرّ العقود. وهذا مرّده إلى عدم رغبة هؤلاء وعدم قدرتهم على فهم “اختلاف” طرابلس وفرادتها ضمن الاجتماع اللبناني العام، بوصفها مدينة تمتلك هويّة أصيلة تتحكّم في مختلف جوانب معاشها.
فعوض أن تستوعب الدولة والمجتمع هذه الفرادة الطرابلسية وأن تستثمر فيها، تذهب إلى تأويل الفقر في طرابلس باعتباره تعبيراً عن فشل اجتماعي سببه أهلها. مع إغفال أنّ طرابلس تمتلك خصوصيّة فريدة صنعها تراكم اجتماعي اقتصادي على مدى قرون. وبالتالي فهي لا تطمح أصلاً إلى تقليد “تطوّر” الآخرين وأنماط عيشهم التي فضحها، للمفارقة، الانهيار المالي الأخير وأظهر هشاشتها.
فالأَوْلى إذاً البحث في الأسباب التي جعلت كثيرين من أهالي وسكّان طرابلس فقراء أو محدودي الدخل. إذ أنّ طرابلس التي تعدّ أهمّ الحواضر العربية على الضفة الشرقية المتوسّط تتمتّع في الأصل ببنى مدينية عريقة ومتجذّرة وبخبرات حرفية كثيفة ومتميزة، هذا فضلاً عن مخزونها الأثري، وكلّ ذلك يجعلها تمتلك العديد من المقوّمات التي تؤهلّها أن تكون غنيّة ومزدهرة.
لكن على الرغم من ذلك فقد أُفقرت طرابلس، إذ دفعت ضريبة فشل الدولة التاريخي في استثمار طاقاتها و”اختلافها” وفي حماية عمرانها وبنيتها الاجتماعية – الإقتصادية من التشوّه. لذلك فإنّ مصيرها يشبه مصير الحواضر العربية القديمة، لا في المشرق العربي وحسب، بل في المغرب أيضاً. ففي المنطقتين شهدت هذه الحواضر اختلالات هائلة بفعل غياب التنمية والتخطيط وبسبب آثار الترييف ومآلاته.
هذا مع الأخذ في الاعتبار الأسباب السياسيّة – الطائفية لتهميش هذه الحواضر المشرقية وتدمير اجتماعها بشكل منهجي. ففي لبنان أدى تحكّم الصراع الطائفي على السلطة، لاسيّما بعد الحرب، إلى إخضاع خريطة الدولة الإنمائية لموازين القوى السياسيّة والطائفية، وهو ما جعل طرابلس تدفع الثمن الأكبر من جرّاء ذلك.
عوض أن تستوعب الدولة والمجتمع هذه الفرادة الطرابلسية وأن تستثمر فيها، تذهب إلى تأويل الفقر في طرابلس باعتباره تعبيراً عن فشل اجتماعي سببه أهلها
وما فاقم هذا الوضع سوءاً تعامل النظام السوري وأدواته اللبنانية مع “الفيحاء” بوصفها جزءاً من إطار جيوسياسي أوسع. فكان لتهميشها وإفقارها أهداف سياسية استراتيجية بالنسبة إليهم. وذلك لأنّ طرابلس إذا ما استعادت عافيتها السياسية والاجتماعية – الاقتصادية فإنّ صدى تعافيها سيبلغ الداخل السوري لا محالة.
بالتالي فإنّ طربلس حوصرت تاريخياً من النظامين السوري واللبناني، خصوصاً عندما يتشابهان لجهة الذهنية الطائفية المتحكمة بهما، كما يحصل الآن. وهذا ما جعل الفيحاء تحت ضغط سياسي وأمني متواصل. مع الأخذ في الاعتبار أنّ الحكم اللبناني قبل الحرب، وأيّا تكن اختلالاته، لم يبلغ ما بلغه الحكم بعدها، ولاسيما في السنوات الأخيرة لناحية تحكّم النزعات التغلبية المذهبية والطائفية على المجال السياسي والإقتصادي – الإنمائي للدولة.
إقرأ أيضاً: إلى الجحيم… البلد بمن فيه
فالجهات التي ورثت الوصاية السورية في لبنان ما انفكّت تسعى، كما سعت تلك الوصاية، إلى وضع اليد على طرابلس بالنظر إلى وزنها السياسي والاجتماعي. هذا يفسّر الكثير مما حصل ماضياً ويحصل اليوم في طرابلس، خصوصاً أنّ التغيرات الإجتماعية الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها المدينة على مرّ السنوات الماضية أضعفت مناعتها ضدّ الاختراقات الأمنية والسياسيّة.
ولعلّ كلّ تلك الاختلالات في تعاطي الدولة مع طرابلس تتجسّد الآن في سلوك السلطة الحالية تجاهها. وليس قليل الدلالة في هذا السياق ألا يزور رئيس الجمهورية العاصمة الثانية للبنان بعد مرور 4 سنوات على انتخابه، وألّا يزور رئيس الحكومة المستقيل، ولو مرّة، الفيحاء طيلة فترة ولايته. أمّا وزير الداخلية فزارها بعد ثلاثة أيام على وقوع الأحداث! كما لم يصدر بيان رسمي واحد يشرح حقيقة ما حصل، هذا وإن كان التشكيك في صدقية بيان كهذا يكتسب في ظلّ السلطة الحالية كامل مشروعيته.