ما كانت لدستور الطائف (وحتى للنظام اللبناني بعده) شعبية لدى المسيحيين. وذلك بسبب الانطباع الذي ساد أنّ الطائف أضعف رئيس الجمهورية ، واستطراداً أضعف قدرات المسيحيين على الإفادة والمشاركة. وقد سكت المسيحيون المشاركون في ثورة الأرز عن الدستور ونقائصه مؤقتاً، بينما تابع الجنرال عون حملته على الطائف والدستور حتى صار ذلك كله أيديولوجيا ودوغما، وأحد عِلل السخط على السُنّة والتظلم منهم والإصرار على استعادة حصة المسيحيين منهم بالذات، كما قال جبران باسيل في عددٍ من تصريحاته الشهيرة.
ولأنّ أحداً لم يقبل بتعديلات دستورية في هذه الظروف، فإنّ رئيس الجمهورية أجرى عشرات التعديلات والتحويرات بالممارسة، كما قال الوزير السابق والمستشار الحالي للرئيس سليم جريصاتي. ومع ذلك بقيت المرارة، وبقي التنكّر، وبخاصةٍ اليوم، حيث تنصبُّ كراهية العونيين على سعد الحريري، الذي يبدو لأول مرةٍ من سنوات كارهاً للرئيس ورافضاً لصهره.
لكنّ السخط المسيحي العامّ ما عاد متعلقاً بنصوص الدستور أو صلاحيات الرئيس، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الإحساس بأنّ لبنان كله ما عاد مفيداً لهم. فالنظام اللبناني (وليس الوطن اللبناني) مرتبطٌ في الأذهان، وبخاصةٍ في أذهان المسيحيين، بالمستشفى والمدرسة والجامعة والمصرف، والبنك المركزي وقيادة الجيش، ونظام المصلحة العربية، الانفتاح على العالم. ويوشك أن لا يبقى شيء من ذلك كله.
قرأتُ قبل شهرين كتاباً لباحثين لبنانيين عنوانه: “الهجرة وتشكُّل النخبة السياسية في لبنان”، يحصيان فيه الشخصيات اللبنانية الكبرى والوسطى التي “صنعت” النظام اللبناني العام منذ الحرب العالمية الأولى. كان سبعون بالمائة من هؤلاء هم من المسيحيين الذين كانوا في المهاجر الأوروبية أو الأميركية أو الخليجية أو الإفريقية. وفقط عندما يصل الأمر إلى الخليج وإفريقيا نجد أسماء بعض السُنّة والشيعة والدروز. بل إنّ هناك سياسيين وماليين لبنانيين مسيحيين كبار من أصول عربية، لكنهم ما جاؤوا إلى لبنان مباشرةً بل عبر زمنٍ في هجرةٍ وسيطة. كل هذه الإنجازات الكوزموبوليتانية للمسيحيين انهارت بالتدريج منذ الحرب الأهلية، أما انهيار كل الميزات فقد حدث في هذا العهد الميمون الذي راهن عليه كثيرون من المسيحيين البورجوازيين والبسطاء. لقد كان هناك إحساس عميق لدى المسيحيين بالتحول المتفاقم لغير صالحهم بداخل النظام وفي علاقاته العربية والدولية. وقد أقنع الجنرال عون فئاتٍ منهم أنه لا إنقاذ إلاّ بتحالف الأقليات. فالحزب والنظام السوري يحفظان أمنهم في وجه الطوفان السني المحلي والعربي، وهم ينصرفون لأعمالهم التجارية والمالية التي اعتادوا عليها، بل ويستعيدون بقوّة الحزب ما فقدوه من صلاحياتٍ دستورية. لكنّ الذين تولوا إنفاذ هذه الصفقة من المسيحيين ليسوا ذوي خبرة، ولا ذوي كفاءة أو أمانة أو حرص حتّى على مصلحة المسيحيين.
السخط المسيحي العامّ ما عاد متعلقاً بنصوص الدستور أو صلاحيات الرئيس، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الإحساس بأنّ لبنان كله ما عاد مفيداً لهم
ففضلاً عن القطيعة مع العرب والعالم التي جاء لهم بها الحزب وسلاحه، صاروا يستحون بالذين أتى بهم الجنرال وجبران ليشغلوا الوظائف العامة، والذين انغمسوا بالصغائر والفساد ونهب المال العام مثلهم مثل الآخرين وأكثر. فحتى المصارف التي بنوها خلال قرن وأكثر وجدت نفسها تنغمس في غسيل الأموال والتجارات الممنوعة والتهريب، واللعب بفرح مع فلوس الحزب التي تُضاهي ثروة قارون. وهي ممارسات ما نالت عواقبها من سياسيين بارزين ورجال أعمال فقط، بل وتوشك أن تنال أيضاً من حاكم المصرف المركزي. وعندما وجد الحزب أنّ المصارف توشك على الدخول في عمليات التطهير الأميركية خوفاً من الإقفال بعد الإمهال، قال: “عليَّ وعلى أعدائي. لتنهدم المصارف، وليسقط حكم المصرف”. وما كان المصرف حاكماً بل كان الحاكم الحزب ومافيا الفساد وجبران باسيل الذي عاقبه الأميركيون بعدما عجز خصومه الداخليون عن معاقبته.
بعد هذا الانهيار الشامل لنظام العيش اللبناني الذي صنعه المسيحيون مع شركاء صغار من المسلمين السُنّة والشيعة، ما عاد المسيحيون يرون لهم مصلحةً في الدفاع عن أيّ صيغة. لقد هاجر صّناع النظام اللبناني مع أموالهم بعد أن كان أبناؤهم في العقدين الأخيرين قد أسّسوا في المهاجر من جديد. والعونيون منهم بعد أن فقدوا السمعة والصدقية يصبون جام غضبهم أخيراً على الحريري وحاكم المصرف وعلى قائد الجيش، وكل ذلك بعد انفجار المرفأ – رمز ازدهار النظام في علائقه بالعالم – من أجل إبعاد التهمة عن أنفسهم، وكيف تتحقق لهم النجاة، وهم الذين فتحوا أبواب جهنم على المسيحيين وعلى اللبنانيين بعامة.
… وماذا عن الشيعة؟
لقد دخلوا جميعاً أو كادوا في” نظام الحزب” وميزاته لأغنيائهم وفقرائهم. وفي الجانب السياسي حصلوا، أغنياء وفقراء على ما أرادوا وأكثر. ما كان عليهم رقيبٌ ولا حسيبٌ في الوظائف وحكم القانون ومراعاته أيام السوريين، وما عاد عليهم حسيبٌ ولا رقيب بعد احتلال بيروت عام 2008 واختراق مؤسسات الدولة كلها بدون استثناء، وتصدّع 14 آذار. وإذا اشتدّ الجدال في الأزمات، فلا حرج عندهم في التذكير بانتصار العام 2000، والانتصار الإلهي عام 2006، واحتلال بيروت عام 2008، وحتى بالتهديد بالصواريخ الدقيقة. كأنّما المقصود الداخل وليس إسرائيل. ومن الاغتيالات غير الدقيقة إلى الصراخ: “شيعة، شيعة”، عندما ظنوا أن الثورة ستشكل لهم تحدياً يشبه تحدي 14 آذار وثورة الأرز.
وقد كان بمقدور الحزب وقد أدّب الداخل وألهاه بتشكيل الحكومات، أن يجتاح الدواخل العربية فيما بين سورية واليمن. وعندما اشتدّ عليه الحصار كما اشتدّ على إيران قال إنه يشترط للعودة إلى الداخل (منتظراً على أي حال توجيهات الولي الفقيه) أن يتولّى مناصب أساسية، باعتبار أن سيطرة الأمر الواقع لا تكفي. بل إنّ المفتي الشيعي الشيخ أحمد قبلان ما عاد يكتفي برفض الطائف والدستور، بل تنكّر للبنان كلّه منذ الأربعينات وما قبل. وعلى ذلك فإنّ الوعي السائد لدى الحزب ومحيطه: الكبرياء الهائلة والإنكار المطلق، والتوجس الشديد في الوقت نفسه. وفي كل الأحوال فإنّ شيعة الحزب هم الأقل سخطاً في الوضع الراهن، والأكثر خوفاً في الوقت نفسه على افتقاد الميزات التي أخافوا بها الآخرين.
بعد هذا الانهيار الشامل لنظام العيش اللبناني الذي صنعه المسيحيون مع شركاء صغار من المسلمين السُنّة والشيعة، ما عاد المسيحيون يرون لهم مصلحةً في الدفاع عن أيّ صيغة
جاء في كليلة ودمنة أنّ صاحب السلطان كراكب الأسد، يهابه الناس لمنظره، وهو الأدرى بالمخاطر التي تهدده بسبب المطية المخيفة التي بلا رَسَن.
كنتُ قبل عدة أشهرٍ قد خضتُ جدالاً في “أساس” مع الصديق قاسم قصير المتعاطف مع الحزب من زمان. كان يريد من الجميع الحوار مع الحزب اليوم وغداً وبعد غد. وكنت أقول إنه لا فائدة من وراء ذلك كما أثبتت التجارب المضنية طوال عقدين وأكثر. ثم خطر له أن يقترح على الحزب التواضُع، و”العودة” إلى لبنان، لأنّ وضعه ما عاد محمولاً ولا مقبولاً، لا في الداخل اللبناني، ولا مع الخارج. وقد هاجت على قاسم كل الزوابع الممكنة وغير الممكنة في بيئة الحزب، فعاد ليعتذر ثم ليعتذر ثم ليعتذر دونما فائدة.
وليد جنبلاط يقترح الآن ترك الدولة والسلطة للحزب وحلفائه العونيين، باعتبار أنه لا فائدة ولا أمل، وسط الانهيار الفظيع، من الاستمرار في محاولة تشكيل حكومة قادرة وفاعلة. لكنّ هؤلاء الذين سيطروا على مفاصل النظام، وتصرفوا دائماً بعقلية المضارب والمعارض الراديكالي، لن يقبلوا بالطبع تحمل المسؤولية، بعد أن لم تعد الدولة دولة، ولا النظام نظام. لقد ظلوا سنوات يضربون اللبنانيين يميناً ويساراً ليعترفوا أنه لا علاقة لهم باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وبعد ثورة تشرين دخلوا في حملة اعتبار المصارف هي المسؤولة عن الأزمة وينبغي تحطيمها، والاستعاضة عنها بجمعية “القرض الحسن”. وها هم اليوم على مشارف حملة لإقناع اللبنانيين، بالقوة إذا لزم الأمر، أنّه لا علاقة لهم بانفجار المرفأ أو تفجيره. والآن يعودون إلى الفرنسيين والأميركان ليستمتعوا بالبقاء على ظهر الأسد كما في أيام أوباما. ودائماً: يكاد المريب يقول خذوني.
كنتُ قبل عدة أشهرٍ قد خضتُ جدالاً في “أساس” مع الصديق قاسم قصير المتعاطف مع الحزب من زمان. كان يريد من الجميع الحوار مع الحزب اليوم وغداً وبعد غد. وكنت أقول إنه لا فائدة من وراء ذلك كما أثبتت التجارب المضنية طوال عقدين وأكثر
هذا هو الوضع اللبناني اليوم بعد انفجار المرفأ وانفجار كورونا، وتخلّي الجميع عن النظام وآخِرُهُم السُنّة. ويطالب بعض الزملاء سياسيي السُنّة أن لا يسعوا لصنع جبهة سنية أو وطنية حتى لا يستثيروا عصبية مسيحية من حول عون بعد انهياره. فيا شباب، لا ليس هناك مسيحي اليوم مع عون ولا يمكن أن يكون لأي سبب، ولا سُنّة اليوم يمتلكون قوّة الجماعة والإجماع وعلو الهمّة وسط فقدان الغطاء العربي والمجاعة وتضاؤل الآمال. أما شيعة الحزب فهم عُراةٌ يحملون رشاشاتٍ ما عادت تخيف أحداً.
إقرأ أيضاً: بين اليأس والهجرة والانفجار (1/2): السُنّة بلا قيادة
في العام 2004 وقد أثار الأميركيون مسألة النووي رأيت مسؤولاً أردنياً يجادل إيرانياً في أن النووي سلاحٌ انقضى أوانه، ولن يزيد إيران قوة. وضرب له مثلاً بالهند وباكستان. الهند عندها نوويٌّ نسيته، وباكستان عندها نووي تشهر التهديد به في كل آن. لكن أين هي الهند وأين هي باكستان، واليوم أين هي إيران وأين هي إسرائيل؟ لبنان لا يحتاج إلى الصواريخ الدقيقة، بل يحتاج للمستشفى والمدرسة والجامعة والمصرف والتجارة الحرة والمزدهرة، وهي مرافق وشواهد للتقدم والعصرنة، وتوشك أن تنتهي بفضل الحزب والعهد الميمون.
أنا شديد التشاؤم مثل سائر اللبنانيين، وقد كنا جميعاً كذلك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي عندما كان الجنرال عون لا يقبل إنهاء الحرب قبل تسنُّمه كرسيَّ الرئاسة. ثم جرت تنحيةُ عون بالقوّة، فتجدّدت الآمال بإحياء لبنان: فهل يحدث الأمر نفسه إذا أمكنت تنحية الرئيس؟
الدكتور جعجع يزعم أنّ ذلك غير كافٍ، وأنا معه، وليس لأنّ الإنقاذ في الانتخابات المبكرة الأسطورية التأثير كما يزعم أيضاً، بل لأنّه هذه المرة عندنا مع عبء الرئيس: عبء الانهيار الشامل، وعبء الحزب الراكب على صهوة الصواريخ الدقيقة.
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ