بقلم روبرت فورد* Robert S. Ford (Foreign Affairs)
يقدّم السفير الأميركي السابق في سوريا رؤية معاكسة تماماً لما تطرحه مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) بشأن تعامل إدارة بايدن مع الملف السوري. فهو يعتمد منهجاً يدعو إلى التعامل براغماتياً مع روسيا وتركيا، بل تسليمهما المهمة، فيما تدعو مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات إلى تعزيز الوجود العسكري الأميركي هناك، ودعم الأكراد، والضغط أكثر على دمشق. لكن رؤية روبرت فورد هي رؤية إدارة أوباما، وهو كان ممثّلها في دمشق، فيما كان بايدن نفسه نائباً للرئيس. وفيما يلي أبرز ما جاء في مقاله:
خلال السنوات الأربع التي قضاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في منصبه، وعد مراراً بالخروج من عمليات بناء الدولة nation-building في الخارج. وقال إنّ الجهود الأميركية طويلة الأمد لإعادة بناء المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع والعمل على استقرارها، كانت مضلّلة، ومآلها الفشل. كما ردّد ترامب في معظم الأوقات إنه خفض عدد القوات في العراق وأفغانستان، وقلّص تمويل تعزيز الديمقراطية بنحو مليار دولار خلال مدّة توليه منصبه.
لكن إدارة ترامب خرجت عن هذه السياسة لمتابعة جهد واحد بعيد المدى في سوريا. وذلك حين حاولت الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية والضغوط المالية لإجبار الرئيس السوري بشار الأسد على قبول إصلاحات دستورية كبيرة وإقامة منطقة حكم كردي في شمال شرق البلاد. وتحت إشراف أميركي، تطوّرت تلك المنطقة إلى شبه دولة لها جيشها الخاص، هو “قوات سوريا الديمقراطية” SDF، وفيها بيروقراطية راسخة تهيمن عليها “وحدات حماية الشعب الكردي” YPG السورية، وذراعها السياسي، “حزب الاتحاد الديمقراطي” PYD.
بعد ست سنوات وإنفاق حوالى 2.6 مليار دولار، صارت هذه الدولة طفل أميركا. نَمَت تحت حماية الجيش الأميركي، وباتت محصّنة من الجيران المعادين. وستبقى المنطقة ذات الحكم الذاتي، غير قادرة على تدبّر أمرها بنفسها، معتمدة على الموارد الأميركية في المستقبل المنظور. بيد أنّ هذا الالتزام المفتوح ليس هو ما تحتاجه الولايات المتحدة. فلم تكن سوريا أبداً قضية رئيسية للأمن القومي الأميركي، واقتصرت المصالح الأميركية دائماً هناك على منع النزاع من تهديد مصالح واشنطن الأكثر أهمية في أماكن أخرى. ولا تؤدّي السياسة الأميركية الحالية إلى تحقيق هذا الهدف المركزي. كما أنها لم توفّر الإصلاح السياسي في دمشق، ولم تُعد الاستقرار إلى البلاد، ولم تتعامل مع فلول تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف أيضاً باسم “داعش” ISIS. ومن شأن الرئيس جو بايدن أن يغيّر المسار عبر سحب مئات الجنود الأميركيين المنتشرين حالياً في سوريا، والاعتماد على روسيا وتركيا لاحتواء تنظيم “الدولة الإسلامية”.
عالقون في طريق مسدود
ظاهرياً، تهدف الاستراتيجية الأميركية في شمال شرق سوريا إلى القضاء على آخر بقايا داعش، مما يحرم التنظيم الملاذ الآمن لشنّ الهجمات منه. ومن المفترض أن يساعد الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية، والنواة الصلبة لوحدات حماية الشعب الكردي، على احتواء داعش بأقل قدر من المساعدة الخارجية، ودون الحاجة إلى انتشار أميركي واسع النطاق.
إدارة ترامب خرجت عن هذه السياسة لمتابعة جهد واحد بعيد المدى في سوريا. وذلك حين حاولت الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية والضغوط المالية لإجبار الرئيس السوري بشار الأسد على قبول إصلاحات دستورية كبيرة وإقامة منطقة حكم كردي في شمال شرق البلاد
لكن على الرغم من جاذبية هذه الاستراتيجية سياسياً، فهي خاطئة للغاية. بعد أن فاقم الأكراد السوريون من التوترات القائمة منذ فترة طويلة بينهم والعرب، بسبب هيمنتهم السياسية، وسيطرتهم على حقول النفط. كما يعترض العرب على الفساد الإداري المزعوم لقوات سوريا الديمقراطية، والعمليات العنيفة لمكافحة الإرهاب، وممارسات التجنيد. من جهتها، نفّذت القوات الكردية هجمات بالسيارات المفخّخة في المدن العربية الخاضعة للسيطرة العسكرية التركية. وفي مثل هذه البيئة المحفوفة بالتوترات العرقية والنزاعات القبلية، يمكن لـ “داعش” أن تعمل بقبول ضمني من المجتمعات المحلية، وأن تجنّد مقاتلين من بين الساخطين. وستواجه الولايات المتحدة هذه المشكلة دائماً بالسياسة المتبعة حالياً.
وللاستراتيجية الأميركية عيب أساسي آخر أكثر أهمية: إذ يعمل “داعش” كذلك في منطقة تسيطر عليها الحكومة السورية وحلفاؤها بشكل فضفاض، بما في ذلك روسيا وإيران، وتمتدّ على بعد 200 ميل تقريباً غرب نهر الفرات. وفرض عقوبات على حكومة الأسد – على الرغم من أنّ هذه الحكومة مثيرة للاشمئزاز – لأن ذلك لا يترك لقوات الحكومة السورية سوى موارد أقل لمحاربة الجماعة المتطرّفة.
يفتقر النهج الأميركي الحالي إلى نهاية يمكن الوصول إليها. فمن دون غطاء أميركي، دبلوماسي وعسكري، من المرجّح أن تواجه “وحدات حماية الشعب” و”قوات سوريا الديمقراطية” حرباً من جبهتين أو ثلاث، ضدّ كلّ من تركيا والحكومة السورية، ومن شأن ذلك أن يُلهي مقاتليها عن المعركة ضدّ “داعش”، فتضطر أميركا إلى تخصيص مزيد من الموارد لمواجهة المشكلات الناشئة.
الاعتماد على روسيا وتركيا
ينبغي على فريق بايدن، بتركيزه الجديد على الدبلوماسية، أن يعتمد بشكل أكبر على روسيا وتركيا. وإنّ الاعتراف بمصالح هذين البلدين في سوريا غير سارّ على النحو الذي يبدو عليه الأمر، لكنه يؤدّي إلى نتائج أفضل.
إنّ روسيا ليست شريكاً مثالياً، لكن دعمها للأسد يجعلها القوة المناسبة لتولّي المعركة ضدّ تنظيم “الدولة الإسلامية”. وتلتزم موسكو بضمان بقاء الحكومة السورية، ومن شأن عودة التنظيم (الذي يحتمل أن تموّله حقول النفط السورية التي يستولي عليها من قوات سوريا الديمقراطية) أن يهدّد الأسد بشكل خطير. ومن خلال هذا الشريط الضيق من الأرضية المشتركة، ينبغي على إدارة بايدن التوصّل إلى اتفاق مع موسكو لمكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية” على جانبي الفرات. هذا سيتطلّب حتماً زيادة البصمة العسكرية الروسية في شرق سوريا. وستحتاج الولايات المتحدة إلى التفاوض مع موسكو على انسحاب تدريجي لقواتها، وجدول زمني لانتقال المنطقة من السيطرة الأميركية إلى السيطرة الروسية.
يفتقر النهج الأميركي الحالي إلى نهاية يمكن الوصول إليها. فمن دون غطاء أميركي، دبلوماسي وعسكري، من المرجّح أن تواجه “وحدات حماية الشعب” و”قوات سوريا الديمقراطية” حرباً من جبهتين أو ثلاث، ضدّ كلّ من تركيا والحكومة السورية
لكن هذا لن يُلغي الحاجة أيضاً إلى منع التنظيم الإرهابي من استخدام سوريا كقاعدة لمهاجمة حلفاء الولايات المتحدة أو مصالحها. وللتخفيف من هذا التهديد، يجب على الولايات المتحدة إقناع تركيا بتأمين حدودها الجنوبية. لذا سيتعيّن على واشنطن تزويد تركيا بالدعم التكنولوجي والاستخباري لمراقبة حركة الإرهابيين.
بالمقابل، يجب على إدارة بايدن إبلاغ الحلفاء الأكراد بالاستراتيجية الجديدة. وسيكون من الحكمة أن يواصل الروس العمل معهم بموجب ترتيب جديد، من خلال إنشاء فيلق سادس في الجيش السوري. وبشكل منفصل، سيتعيّن على “حزب الاتحاد” و”وحدات حماية الشعب” التفاوض مع دمشق حول الوضع السياسي للأراضي التي يسيطرون عليها.
الاعتراف بحدود الولايات المتحدة
وفي نهاية المطاف، يجب على إدارة بايدن أن تكون واقعية بشأن قدرة الولايات المتحدة على انتزاع تنازلات سياسية في سوريا. لقد طالب طويلاً المسؤولون الأميركيون – ومن ضمنهم أنا – حكومة الأسد إجراء إصلاحات مع تحقيق نجاح ضئيل. ومن جانبها، حاولت إدارة ترامب استعمال العقوبات المالية والسيطرة على حقول النفط السورية لإجبار دمشق على تغيير سلوكها. لم يتزحزح الأسد. ولن تؤدّي سيطرة الولايات المتحدة أو قوات سوريا الديمقراطية على حقول النفط الصغيرة في شمال شرق البلاد إلى تغيير المعادلات.
ويزعم محلّلون آخرون أنّ انسحاب أميركا من سوريا من شأنه أن يمنح روسيا وإيران زمام الأمور. ويتغافل هؤلاء عن الروابط السياسية والعسكرية بين روسيا وسوريا القائمة منذ عقود – ومن غير المرجّح أن تُضعفها الضغوط الأميركية. كما أنّ الوجود الإيراني قديم الأمد: عندما كنت سفير الولايات المتحدة في سوريا قبل عشر سنوات، تقاسم الدبلوماسيون الأميركيون مبنى سكنياً مع أعضاء الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. هناك منشآت عسكرية للحرس الثوري في سوريا منذ ما يقرب من 20 عاماً. ولن تغيّر الدوريات الأميركية الصغيرة في بعض الأحيان في شرق سوريا أياً من هذه العلاقات الثنائية. ولن تكون قادرة على منع دخول شحنات الصواريخ الإيرانية إلى سوريا – وهو أمر تقوم به القوات الجوية الإسرائيلية بفعالية.
إقرأ أيضاً: هل يعمل بايدن على إنهاء الحروب في أوّل 100 يوم؟ (2/2)
وبطبيعة الحال، يمكن لبايدن الحفاظ على استراتيجية إدارة ترامب كما هي. لكن القيام بذلك يعني إهدار مليارات الدولارات مع تفاقم التوترات بين الطوائف وعدم احتواء تنظيم “الدولة الإسلامية”. إنّ للولايات المتحدة أهدافاً محدودة في سوريا، ومن المفترض أن تكلّف واشنطن أقل بكثير. وبدلاً من ذلك، يمكن صرف الأموال لمعالجة المشكلة الهائلة للاجئين. من الأفضل السماح لروسيا وتركيا بتأمين مصالحهما الوطنية من خلال تحمّل العبء المناهض لداعش. وفي نهاية المطاف، فإن مثل هذه الصفقات هي جوهر الدبلوماسية – العمل على مشكلات محدّدة، حتى مع الشركاء البغيضين، لتحقيق أهداف محدودة، ولكن متبادلة.
روبرت س. فورد: شغل منصب سفير الولايات المتحدة في سوريا، بين عامي 2011 و2014، أي في زمن اندلاع التظاهرات المناهضة للنظام، وإلى حين ظهور تنظيم داعش. باحث في “معهد الشرق الأوسط”، وباحث في “معهد جاكسون للشؤون العالمية” في جامعة ييل.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا