إذا جمّعنا ما تناثر حول “انفجار” صرخات الجائعين في طرابلس، سنكون أمام مشهد مثير للتعجّب، لكنّه المشهد الحقيقي، ليس فقط لطرابلس، بل لكلّ هذه البيئة التي تبدو الأقلّ قدرةً على التماسك والنجاة Surviving من بين البيئات والمجموعات اللبنانية الكثيرة.
فور أن بدأت الاحتجاجات تسلك منحى “العنف الثوري”، بدأ “الذباب” الإلكتروني، وخبراء التوظيف الحزبي والسياسي، يحوم حول عيون الغاضبين في محاولة لتوجيه “قبضاتهم” في خدمة هذه الأجندة أو تلك.
1 – إعلام حزب الله بدأ يسوّق، عبر مواقع التواصل، أنّ “هؤلاء هم السنّة”، وها هم أمامكم، عنيفين ويحرقون مناطقهم. تماماً كما جرى في بدايات الثورة السورية، حين بدأ التحريض ضدّها باعتبارها “صحوة سنيّة تستهدف الشيعة”. وكانت جرائد الممانعة وتلفزيوناتها قد ألهبت مخيّلات القرّاء والمشاهدين بسيناريوهات عن “عودة داعش” قبل أيام من الانفجار الطرابلسي”. مقابل ذلك ذهب البعض الى اتّهام حزب الله وسرايا مقاومته بإحراق مبنى البلدية والمحكمة الشرعية.
2 – آخرون اعتبروا أنّها “مؤامرة على السنّة” وأنّ هؤلاء الغاضبين الذين خرجوا جائعين، إنّما الهدف من خروجهم هو “تشويه صورة السنّة” وتبرير قتل السنّة.
3 – أما إعلام “العهد”، ونجومه على مواقع التواصل، وربما أكثرهم صراحة المخرج شربل خليل، فراح يوظّف مشاهد الحريق في التحذير من “داعش”، باستخدام صور مسلّحين مأخوذة من مناطق أفغانية وسورية، للقول: “هذا ما ينتظر المسيحيين”.
4 – جرى هذا مثل “الشحمة على الفطيرة” بالنسبة إلى مناصري بقية أحزاب السلطة، من مختلف التيارات المذهبية. هؤلاء وجدوا ضالّتهم في صور الحرق والعنف ليل الأربعاء – الخميس، للقول إنّ “هذه ليست ثورة”. وشاركهم مستفيدون من المجموعات الحاكمة، ليوغلوا في تشويه صورة الثورة والثوّار الأنقياء، وليمعنوا في رحلة القضاء على ما تبقّى من “نفَس” لبناني ومن روح تفرح لـ”عودة الشارع إلى الحياة” أو “عودة الحياة إلى الشارع”. قال هؤلاء: “ها هو الشارع، حريق بحريق، وسيحرق ما تبقّى من لبنان”.
إعلام حزب الله بدأ يسوّق، عبر مواقع التواصل، أنّ “هؤلاء هم السنّة”، وها هم أمامكم، عنيفين ويحرقون مناطقهم. تماماً كما جرى في بدايات الثورة السورية
5 – بعض الناشطين وجدوا في فيديو للنائبة عن طرابلس المجمّدة لإستقالتها ، ديما جمالي، وهي تستمتع في مقاهي الإمارات، للتذكير بخيارات الرئيس الحريري في تمثيل مدينة طرابلس.
6 – بعدما حاصر الثوّار منزلي النائب سمير الجسر، والنائب السابق أحمد فتفت، سرت شائعات عن “غياب الجسر” بسبب “زعل” قديم من الحريري.
7 – مثله خرج نائب رئيس “تيار المستقبل”، الدكتور مصطفى علّوش، ليقول إنّ “انفجار الشارع السنّي سببه غياب القيادة” في تعليقه على “انتشار” الثورة في المناطق السنيّة فقط.
8 – الحريري، الذي انفضّ من حوله، “وإن بالشكل”، الجسر وجمالي وعلّوش، لم يجد غير رجل الأعمال السعودي – البيروتي أحمد هاشمية ليبعثه إلى طرابلس، بصفة مستجدّة، هي “ممثّل الرئيس الحريري”، واعداً بترميم مبنى البلدية ومبنى المحكمة الشرعية. وهو لم يراعِ مشاعر الطرابلسيين، ولا مناصريه ولا محازبيه في العاصمة الثانية، بأن امتنع عن اختيار أحدهم ليمثّله في مدينتهم، حتّى أرسل لهم صديقه من بيروت.
9 – ثم كان كلام النائب جبران باسيل، الذي اتّهم الحريري بأنّه وراء العنف لإشاحة النظر عن ادّعاء مدّعي عام جبل لبنان على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبالضغط على رئيس الجمهورية ليوقّع على حكومته.
خرج نائب رئيس “تيار المستقبل”، الدكتور مصطفى علّوش، ليقول إنّ “انفجار الشارع السنّي سببه غياب القيادة” في تعليقه على “انتشار” الثورة في المناطق السنيّة
10 – ردّ الحريري باتهام الجيش بالتقصير، وربما من أمر الجيش بالابتعاد. ثم سرت شائعات عن خلافات بين الجيش وقوى الأمن الداخلي سمحت بتفاقم الوضع الأمني من خلال مجموعات تأتمر من هذا الطرف أو ذاك، ومن خلال تأخير تدخّل الجيش.
11 – خرج البعض ليتّهم قائد الجيش بأنّه يتنصّل من مواجهة المتظاهرين، حفاظاً على صورته، باعتباره المرشّح الوحيد لرئاسة الجمهورية، الباقي على قيد الحياة السياسية، من بين آخرين سقطوا، ليس أوّلهم باسيل، ولا آخرهم سلامة.
12 – هنا دخل اتّهام “صراع الأخوة” في جريدة “الأخبار”، أي مجموعات تابعة لسعد، بوجه مجموعات تابعة لبهاء الحريري، ما تسبّب بالفوضى.
13 – وعلى هامش شائعة “صراع الأخوة” كان “صراع الرئيسين”، الحريري وميشال عون، يحاول أن يملأ فضاء الصرخات الجائعة، ببيانات قصف تبادلت الاتهامات بتعطيل الحكومة.
14 – اتّهم آخرون “تركيا”، و”المنتديات” وليس “بهاء وسعد” فقط. فدخل السفير التركي على الخطّ أمس بزيارة طرابلس والتعهّد بترميم ما خلّفته “ثورة الجوع” ليل الأربعاء.
15 – في هذه المعمعة خرج الرئيس نجيب ميقاتي ليهدّد بحمل السلاح دفاعاً عن النفس. كأنّي به يقول: “فلتحترق بمن فيها، سأدافع عن ممتلكاتي”.
خرج البعض ليتّهم قائد الجيش بأنّه يتنصّل من مواجهة المتظاهرين، حفاظاً على صورته، باعتباره المرشّح الوحيد لرئاسة الجمهورية
16 – اجتمع نواب المدينة وفاعلياتها، من كتلتي ميقاتي والحريري، وتذكّروا دعوة “الدولة” (هم ممثلو أندية رياضية لا علاقة لها بالسلطة) لصرف مساعدات للفقراء في عاصمة الشمال، وطالبوا الأجهزة بتوقيف “المتعدّين المبرمجين”.
17 – لم تغب وزارة الخارجية الأميركية عن المشهد. يا للهول، خارجية جو بايدن الفتية وجدت وقتاً للتدخّل في طرابلس، فدعا متحدث باسم الخارجية إلى “الامتناع عن العنف أو الأعمال الاستفزازية”، وقال إنّ الخارجية “تراقب الوضع في طرابلس عن كثب وتحث جميع الأطراف على الامتناع عن العنف أو الأعمال الاستفزازية”.
إذا تأمّلنا كلّ ما سبق، سنرى أنّ إحراق مبنيين في طرابلس – على رمزيّتهما – فضح الكثير الكثير مما كان الجميع يعرفه. لكن لا بدّ من التمعّن جيّداً، لنلاحظ كيف “تكأكأ” ذباب السياسة، فوق دماء الجائعين ودموعهم.
هي ليلة واحدة تختصر الزمن الطرابلسي، وربما الزمن اللبناني كلّه.
إقرأ أيضاً: إلى الجحيم… البلد بمن فيه