يؤكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنّ الأرقام المسربة عن المبالغ المحوّلة إلى سويسرا مبالغ فيها، وهذا إقرار ضمني بوجود تحويلات، لكنّ سلامة كما الادعاء السويسري لم يوضح إن كان الأمر يعنيه هو شخصياً أم يعني تحويلات تخصّ أموال مصرف لبنان، كما أن سلامة لم يردّ على الدوافع التي انطلق منها القضاء السويسري حين تحدّث عن اختلاس وغسيل أموال. بل أجاب نافياً بشكل عام كل ما قيل أنّه ورد من القضاء السويسري.
الجزء الأول من هذا المقال، تناول الجهات التي يحقّ لها فتح حسابات لدى مصرف لبنان والفرضيات التي تحاكي الملف. فماذا عن دور القضاء في التحقيقات المزعومة؟ وهل هي فعلاً تحقيقات تستند إلى إدعاء أم مجرد استفسار يخصّ الشأن الداخلي السويسري ولا علاقة للبنان بها؟
في هذا الصدد، يكشف المحامي والوزير السابق زياد بارود، في اتصال مع “أساس”، عن وجود طريقتين للتحرك القضائي، الأولى من لبنان والثانية من سويسرا. التحرّك اللبناني ينصّ عليه بالتفصيل قانون 2015/44 الخاص بـ”مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب”.
بحسب بارود، فإنّ القضاء اللبناني يطلب من نظرائه حول العالم الحصول على معلومات إذا كان ثمة شبهات في حسابات مصرفية. وذلك من خلال هيئة التحقيق الخاصة التي توصي بحسب المادة الثالثة الفقرة الثالثة بـ”رفع السرية المصرفية لصالح المراجع القضائية المختصة، ولصالح الهيئة المصرفية العليا بشخص رئيسها، عن الحسابات أو العمليات التي يشتبه بأنّها تتعلق بتبييض أموال أو بتمويل إرهاب”.
يكشف المحامي والوزير السابق زياد بارود، في اتصال مع “أساس”، عن وجود طريقتين للتحرك القضائي، الأولى من لبنان والثانية من سويسرا
هذا في لبنان، أما في سويسرا فيؤكد بارود أنّ الأخيرة “تملك قواعد امتثال (Compliance) تلتزم بها المصارف السويسرية وتفرض عليها القيام بإجراءات تلقائية تخصّ التدقيق بشبهة الحسابات وأصحابها وشرعية الأموال المودعة فيها”، وهذا يعني أن المصارف السويسرية “تتحرّك قانونياً في حال رصدت شبهات في الحسابات، وتحركها يمرّ عبر قنوات تشبه هيئة التحقيق الخاصة في لبنان”.
لكنّ بارود في المقابل، يعتبر أنّ الطلب السويسري يتسم بـ”السرية الشديدة”، ولا أحد يعرف الأسباب التي دفعت بالادعاء صوب طلب المساعدة من لبنان، فيسأل: “هل هو ادّعاء أو مجرّد طلب معلومات؟ هل هناك ملف استقصائي أو أنّ أحد المصارف هناك قرّر تطبيق قواعد الامتثال فقدم إخباراً؟ لا أحد يعلم، لكنّ الأمر الأكيد أنّ القضاء السويسري لن يقفل الملفّ قبل الوصول إلى أجوبة تقود إلى الإدانة أو التبرئة. لأنّ أولوية القضاء والمصارف السويسرية على السواء تتعلّق بسمعتها ومصداقيتها”.
وعن شكل الإخبار الذي يتحرّك بموجبه القضاء السويسري، يكشف بارود أنّه قد “يأخذ شكل رسالة أو لفت نظر مكتوب ومؤثق بمعلومات كافية بفتح تحقيق. وقد تكون من شخص لا حاجة إلى الإفصاح عن اسمه أو جنسيته. يكفي أن تتشكل قناعة لدى المدعي العام بجديّة الحجج حتّى يتحرّك”.
في ختام الحديث، يشدّد بارود على ضرورة تصويب الفوضى في الحديث عن “الأموال المنهوبة” في لبنان، داعياً الجميع إلى توخّي الدقّة والحذر في إطلاق الأحكام والاستنتاجات، لأنّ “المال المنهوب يتوجب التحقيق بمصدره وشرعيته وقانونيته وليس بقيمته، فحجم الأموال لا علاقة له بنظافته من عدمها”.
لعلّ بارود انطلق من وجهة نظر قانونية بحت، إلاّ أن لخبراء المخاطر المصرفية رأي آخر، ينطلق من أنّ اختيار سلامة المثول أمام القضاء السويسري كان “قراراً لا يخلو من الدهاء”. فربما سلامة يفضل أنّ تتمّ التحقيقات بعيداً عن الألسن اللبنانية.
يشدّد بارود على ضرورة تصويب الفوضى في الحديث عن “الأموال المنهوبة” في لبنان، داعياً الجميع إلى توخّي الدقّة والحذر في إطلاق الأحكام والاستنتاجات
في نظرهم فإن المصارف السويسرية قد لا تبدي حماسة في التحرّك إلاّ بموجب ادّعاء رسمي لأنّها ليست بوارد التطوّع في “تطفيش” رؤوس الأموال من مصارفها بلا تُهم صادرة من جهات قضائية، أكان في سويسرا أم في لبنان أو بلد آخر، وثمة شواهد كثيرة عن دعاوى مشابهة فضّلت المصارف السويسرية “دفع الغرامات للخزينة الأميركية على خسارة رؤوس أموال تستثمرها بالكامل من دون دفع أي فائدة لأصحابها”.
هذا الكلام عن عدم التزام المصارف السويسرية، أكّده بطريقة أو بأخرى، النائب اليساري السويسري فابيان مورينا الذي تحوّل في اليومين الأخيرين إلى “مصدر موثوق” لدى الإعلام اللبناني، فنقل كثيرون عنه وقوّلوه ما لا طاقة له على حمله كبرلماني يعلم جيداً حدود وظيفته التشريعية حصراً. وعاد ونفى في مقابلة مع “الجديد” ما نُشره عن لسانه عن أنّ سويسرا جمّدت 400 مليون دولار لسلامة.
تستدلّ المصادر إلى صحّة ما تقول من خلال نوعية شركة المحاماة التي استعان بها سلامة، ومن خلال التذكير بالطلب الذي توجّه به النائب العام التمييزي غسان عويدات إلى القضاء السويسري قبل نحو سنة، ولم يحصل لبنان بموجبه على أيّ جواب سويسري. وذلك لأنّ القضاء اللبناني لم يكن جدّياً بطلبه ولم يتوجّه بأيّ تهمة من خلال هيئة التحقيق الخاصة، لأحد من السياسيين أو المسؤولين اللبنانيين، وإنّما اكتفى بطلب استفسار عام عن حجم التحويلات التي تمّت من لبنان إلى سويسرا ضمن مهلة محددة. مع العلم أنّ معرفته لما طالب به سهل جداً من هنا من لبنان، ولا حاجة للاستفسار من سويسرا أو غيرها، ولعلّ هذا كله لم يكن مسوّغاً كافياً لدفع المصارف السويسرية وربما القضاء هناك، إلى التعاون مع القضاء اللبناني.
أما المصارف اللبنانية فقد أبلغت هيئة التحقيق الخاصة أنّ كل التحويلات التي تمّت عن طريقها قانونية وليس من شبهات حول الأموال المحوّلة.
إذاً، لا شيء أكيداً حول الدوافع التي ينطلق منها الادّعاء السويسري لطلب التعاون، وأحد لا يعلم إن كانت تستهدف التحضير للادّعاء على أحد أو مجرّد إخبار من جهة لبنانية أو غير لبنانية. لكنّ الأكيد أنّ الدوافع تخصّ سويسرا حصراً ولا علاقة لمصلحة لبنان أو الشعب اللبناني بها.
وعليه، فإنّ رياض سلامة مطالب بأن يُثبت براءته انطلاقاً من القضاء اللبناني في حال الادّعاء عليه، لا من القضاء الأجنبي. فهو موكلٌ بموجب القانون اللبناني بمهمة الحفاظ على سلامة النقد، ومن هنا فإنّ براءته الفعلية تمنحها الجهات التي أوكلته بهذه المهمة وبموجب قوانينها لا قوانين الغير، إن في سويسرا أو غيرها. خصوصاً أن لا أحد يملك ترف الدفاع عن رياض سلامة اليوم. فللرجل سياسات وهندسات مالية تجاوزاتها فاقت الوصف. تجاوزات حرُص على أن تكون على مدى عقود لا تشوبها أي شائبة “قانونية”، By the book.
إقرأ أيضاً: تبرئة سلامة تبدأ من القضاء اللبناني: لماذا بقيت تحويلاته سراً لسنوات؟(1/2)
الشرط الأساسي لتحقيق هذه المهمة القانونية هو وجود قضاء مستقل قادر على إقناع اللبنانيين بأنّه راغب أولاً وفاعل ثانياً على أن يكون عادلاً وشفافاً.
المصارف اللبنانية أبلغت هيئة التحقيق الخاصة أنّ كل التحويلات التي تمّت عن طريقها قاننونية وليس من شبهات حول الأموال المحوّلة
لا أحد يستطيع إنكار أنّ ملفّ سلامة بدأت مقاربته اللبنانية تفوح منها “روائح شخصنة”، إذ تحوّل ملفّ الأموال والتحويلات والتُهم على مدى سنة، من قضية تخصّ مجموعة من السياسيين المشبوهين بها، إلى فرد واحد يتحمّل مسؤولية كلّ ما وصلنا إليه. فيكفي أنّ نسمع بخبر تبرُّع النائب جميل السيد ليكون “شاهداً طوعياً” يدلي بدلوه أما القضاء السويسري، حتى يتبيّن لنا من له مصلحة في إبعاد سلامة عن حاكمية مصرف لبنان لمآرب سياسية في هذا التوقيت الحرج من تاريخ لبنان الذي لا يخلو من “خلل التوازنات” الوطنية لصالح جهات ما عاد صعباً معرفتها… فيظهر لك بذلك جلياً “الرشد من الغيّ”!