أبشروا أيها المودعون… دولاراتكم في المصارف تبخّرت، وتحوّلها إلى سراب سيكون مثبّتاً بقوة “قانون الموازنة”. فإقرار موازنة العام 2021 كما هي، سيعطي الحق للمصارف في التهرّب من دفع هذه الودائع بالدولار الأميركي لصالح الليرة، بل ربّما سيعطيها الحقّ بدفعها على شكل شيكات مصرفية بالدولار غير قابلة للصرف، طالما أنّ الموازنة ستغطّي إرتكابات كهذه من خلال المادة 110.
تقول المادة: “خلافاً لأيّ نص آخر، تُلزم المصارف بتسديد الودائع الجديدة بالعملة الأجنبية التي يتم إيداعها نقداً لديها أو من خلال تحويلات مصرفية خارجية اعتباراً من تاريخ نشر هذا القانون بتسديدها بالطريقة عينها التي أودعت لديها، بناءً على طلب صاحب العلاقة”.
إذاً، بفقرة واحدة لا تتعدى الأسطر الثالثة ضُمّنت في آخر مادة من مشروع الموازنة، نسفت وزارة المالية ودائع الدولار القديمة. نسفتها كلها من خلال الإشارة إلى الودائع الجديدة الـFresh money ودون أن تأتي على ذكر الودائع القديمة بأيّة كلمة.
وعلى الرغم من أنّ هذا الاجراء ليس جديداً وقد أرساه تعميم مصرف لبنان رقم 150 في التاسع من نيسان 2020، إلا وزارة المالية بموجب هذه المادة (في حال إقرارها) تكون قد نقلته من حالة “الإجراء التنفيذي” لمصرف لبنان إلى رحاب “القانون” الصادر عن المجلس النيابي لصالح المصارف، والذي يقضي بحصر عمليات الدفع بالعملة الأجنبية بالودائع الجديدة… لتقرّ ضمناً من دون أن تبوح، بأنّ الودائع القديمة لا مجال لدفعها إلاّ بالليرة اللبنانية.
بفقرة واحدة لا تتعدى الأسطر الثالثة ضُمّنت في آخر مادة من مشروع الموازنة، نسفت وزارة المالية ودائع الدولار القديم
المتعارف عليه في قوانين “المالية العامة”، أنّ قانون الموازنة يبحث في إيرادات الدولة ونفقاتها. لكنّ هذه المادة لا تخصّ الشأنين على الإطلاق. بل أكثر من ذلك فإن هذه المادة لا علاقة لها بأي عملية إصلاحية، وإنّما دُست في ظُلمة الليل في آخر مواد الموازنة كبديل عن قانون الـCapital Control الذي ما زال يتخبّط في أروقة مجلس النواب ويقفز من مسودّة إلى مسودة منذ منتصف شهر أيار 2020 بلا أيّ طائل يُذكر.
يومها ضرب الرئيس نبيه بري يده على صدره وقال: “الكابيتال كونترول لن يمرّ”، وكانت حجته في حينه مستمدّة من رفض “حزب الله” القانون، وكذلك من مقاربته الخاصة التي تنطلق من أنّ الـ”كابيتال كونترول يأتي في صالح المصارف على حساب المودعين”، وأنّ ثمة أولويات أخرى تخصّ القطاع الصحي وحماية الناس من فيروس كورونا… فلا حصّل اللبنانيون صحتهم ولا استطاعوا حماية دولاراتهم.
في حينه ذكرت مقدّمة مشروع القانون الأول ما حرفيته أنّ “أيّ تأخير إضافي في اتخاذ إجراءات الكابيتال كونترول من شأنها تضخيم الأزمة التي تتربّص بالقطاعين المصرفي والمالي”، وعلى الرغم من ذلك ما تزال السلطة تمعن في إغراق المودعين بـ”رمال المصارف المتحرّكة”، وتلتفّ على الأصول لتمرّر ما يناسبها.
اللجنة النيابية المولجة بدراسة قانون الـ”كابيتال كونترول” تضمّ أغلب الأحزاب اللبنانية، لكنّها على ما يبدو متفقة في ما بينها على الترّيث. فلا تخرج بأيّ مسودة تكشف ما يجري البحث فيه. آخر محاولات الاستفسار التي قام بها “أساس” من النواب المولجين البحث في اقتراح القانون، تؤكد بلسان من استطاعت التواصل معهم أنّ القانون ما زال قيد النقاش، لكنّ لم يبدِ أحدٌ من هؤلاء النواب استعداده للكشف عن تفاصيله أو الكشف عن بعض بنوده، الأمر الذي يوحي بأنّ لا أحد على عجلة في أمره وما قانون الـ”كابيتل كونترول” إلاّ “طبخة بحص” يُحاولون، بطريقة أو بأخرى، الاستعاضة عنه بهذه المادة اليتيمة في قانون الموازنة طالما أنّ لا خطة تلحظ مصير سندات الدولة.
يومها ضرب الرئيس نبيه بري يده على صدره وقال: “الكابيتال كونترول لن يمرّ”، وكانت حجته في حينه مستمدّة من رفض “حزب الله” القانون، وكذلك من مقاربته الخاصة التي تنطلق من أنّ الـ”كابيتال كونترول يأتي في صالح المصارف على حساب المودعين”
في هذا الصدد يقول النائب في لجنة المال والموازنة ياسين جابر إنّ أقفال البلد بسبب جائحة كورونا الذي أصاب عدداً من أعضاء اللجنة حالا دون قدرتهم على الاجتماع من أجل الاطلاع على تفاصيل قانون الموازنة، وبالتالي على مضمون المادة 110، لكنّه في المقابل يؤكد أنّ قانون الـ”كابيتول كنترول” هو حالياً “قيد الانشاء”، وبات هناك مسودةّ تحوي أفكاراً تتحفظ اللجنة المصغرة المنبثقة عن لجنة المال والموازنة على نشر أو تسريب هذه المسدوة وما فيها من الأفكار.
بحسب جابر فإنّ إقرار القانون “استغرق الكثير من الوقت” وكانت السلطة مطالبة بذلك منذ بدايات الأزمة، لأنّه كان قادراً على “إحداث اختراقات” فهو بمثابة “بروتوكول علاج” لأيّ مرض نقدي في أي دولة مأزومة، خصوصاً أنّه “يندرج ضمن لائحة مطالب صندوق النقد الدولي”. جابر يقول إنّ المصارف كانت الجهة الرافضة لإقرار هذا القانون بدايات الأزمة خوفاً من تأثيره على سمعة القطاع. فهو يضع قيوداً على القطاع المصرفي كما يضع قيوداً على المودعين أيضاً، لكنه في المقابل كان سينظّم عمليات السحب بشكل عادل ويسري على الجميع. أما اليوم فإنّ المصارف “عادت لتطالب به، لكن من أجل حمايتها من الدعاوى القضائية التي تُرفع ضدها في القضاء اللبناني والخارجي فقط”.
إذاً القانون انتقل من مرحلة الرفض المطلق إلى مرحلة البحث في التفاصيل والسقوف، لكن يبدو أن المصارف ما زالت قادرة على التأثير بدليل تأخر اصداره طوال هذه المدة.
لكن ما هو رأي القانونيين في المادة 110؟ وهل يمكن الخروج باستنتاج كهذا؟
يقول المحامي مجد حرب لـ”أساس” إنّ التوجه العام في حال عدم وضوح القانون في أمور مشابهة يكون المشرّع ميالاً للأخذ بمبدأ “لا استثناء دون نص صريح”، بمعنى آخر فإن سكوت القانون لا يمكن تفسيره إلاّ في صالح الجهة الضعيفة وفي هذه الحالة الضعفاء هم المودعون. كما يرى أنّ الهدف من هذه المادة هو “استقطاب الأموال جديدة من الخارج”. في نظره هي “بمثابة بادرة طمأنة لأصحاب الحسابات الـFresh dollar“… أي أن المسألة قد تكون متروكة لاستنسابية القاضي عند وقوع النزاع.
أما البروفسور الحقوقي ابراهيم نجار فيستبق الوقوع في النزاع ويؤكد إنّ هذه المادة “تتناقض مع الدستور وحرية التصرّف بالأموال الشخصية”، وهي “بمثابة كابيتل كونترول مستتر”. في نظره فإنّ المادة 110 تشكلّ “استملاكاً غير مباشر للودائع القديمة من دون أيّ تعويض”، لأنّها بالمعنى المعاكس لروح المادة، تعني أنّ “أصحاب الإيداعات غير الجديدة ستكون المصارف بحلٍّ من دفع إيداعاتهم بالدولار الأميركي”، ويخلص إلى القول إنّ “هذا النص خطير جداً ويجب ألاّ يمر في الموازنة أبداً”.
إن سكوت القانون لا يمكن تفسيره إلاّ في صالح الجهة الضعيفة وفي هذه الحالة الضعفاء هم المودعون
الخبراء المصرفيون يعتبرون أيضاً أنّ الودائع القديمة في المصارف، والتي تبلغ قرابة 120 مليار دولار (80% منها بالدولار الأميركي) ستبقى محتجزة ومجهولة المصير لأنّ لا خطة إصلاحية جدية تنجلي فيها بشكل واضح خطة إعادة هيكلة وجدولة الدين العام، وذلك بسبب قرار حكومة حسان دياب التمنّع عن دفع سندات الـ”يوروبوند” وسندات الخزينة بالليرة اللبنانية. هذا القرار بدوره يضع المصارف في “عالم البرزخ النقدي”. فهي ما عادت قادرة على احتساب خسائرها بشكل دقيق لمعرفة الشكل والآليات التي تحتّم عليها إعادة الودائع لأصحابها، وإنما باتت مجبرة على اعتبار كلّ السندات “خسائر مؤكدة”.
إقرأ أيضاً: موازنة رفع العتب: خسائر مخفية.. وإيرادات كاذبة
في المقابل تحضّ السلطة هذه المصارف على إعادة هيكلة القطاع المصرفي وعلى اندماج المصارف… فيقذف كلّ طرف المسؤولية على الآخر لتنتهي الأزمة برمتها في حضن المودعين: الدولة لا تدفع ديونها للمصارف ولا تبحث في آليات الدفع، والمصارف تنتظر حصولها على أموالها، كما ينتظر المودعون الذين يدفعون الثمن.
ليس سرّاً أنّ الآمال في عودة ودائع الدولار كانت ضعيفة، لكن ليس إلى حدّ إصدار قانون يقرّ بذلك صراحة ويفتح المجال أمام المصارف لابتزاز المودعين. ويضاف إليه مشهدية تتماهى فيها مساعي مصرف لبنان مع قوانين الحكومة لافتراس اللبنانيين: الأوّل ينقضّ على دولارات المساعدات الـFresh فيدفعها بالليرة، فيما الثانية تقونن “عملية نصب” الدولارات المحتجزة في المصارف.
*شارك في تفسير التفاصيل التقنية في هذا المقال، الدكتور محمد فحيلي.