البشر ليسوا فيروسات: طرابلس تواجه “نظام القُفْل” دون مفتاحه…

مدة القراءة 6 د

تتسابق اللقاحات في محاولاتها، بأشكال وسبل مختلفة، محاكاة الفيروس للاستيحاء منه أسلوب محاصرته، واستعارة الأسلوب الذي يعتمده للتكاثر بالأجسام المضادة له.

في هذا الوقت، البلد الذي ينقطع فيه الأسبرين والبنادول عن صيدلياته، يكتشف يوما بعد يوم مرارة أنّ هناك فيه مستشفيات متطوّرة تقنياً لكنها تعكس بالنتيجة كلّ شيء في البلد، سياسياً واجتماعياً، وليس في البلد الحدّ الأدنى من النظام الاستشفائي لغالبية الناس. هذا النظام الذي لا يمكن أن يُختزل في سؤال: “المستشفيات فوّلت أو لم تفول”.

بلد تحكمه سياسات حكومية في مجال الصحة لكن ليست تفضي إلى سياسة صحّة عامة شاملة.

والحال هذه، فإنّ نظام الحكم هنا لا يرمز له شيء أفضل من “القفل”، قفل لا مفتاح له.

نظام القفل الذي لا مفتاح له (أو ذو المفتاح الضائع أو الهارب)، قرّر التنقّل من إقفال عام الى آخر. وحكومة تصريف الأعمال تحوّلت إلى حكومة تصريف إقفال.

طبعا، الفيروس يتفشّى بشكل خطير، لكنّ رهان نظام “القفل الذي أضاع مفتاحه” هو جعل مواجهة الفيروس أولوية من دون جعل الصحة العامة أولوية، ولا حتى الرفع من موقعها في تسلسل الأولويات.

وهذا إن عنى شيئاً، فقطع الأوكسيجين عن مجتمع، بداعي مواجهة فيروس.

واذا كانت اللقاحات تحاكي شيئاً ما في الفيروس أو في شكل تغريره بالخلية التي ينزل فيها للانقلاب على الفيروس لاحقاً، فإنّ نظام القفل له محاكاة من نوع آخر للفيروس.

بالأسلوب نفسه تمكّن فيروس الكورونا من الإمساك بجسم، وتعطيل وظيفة الرئتين، والعربدة في الدماغ، والانسلال إلى القلب. هذا في حالة الفيروس الأشدّ فتكاً في الجسم الأكثر هشاشة. كذلك هي خطط مواجهة الكورونا عندنا. تحذو حذو فتك الكورونا الأشدّ وطأة بالجسم الهشّ، حذو النعل للنعل. وسيكون مثيراً للفضول، ساعتها، أن تأتي النتائج مغايرة تماماً في حالة المقتدي، عن النموذج المقتدى به.

طبعا، الفيروس يتفشّى بشكل خطير، لكنّ رهان نظام “القفل الذي أضاع مفتاحه” هو جعل مواجهة الفيروس أولوية من دون جعل الصحة العامة أولوية، ولا حتى الرفع من موقعها في تسلسل الأولويات

يكفي الاحتجاجات في طرابلس أنّها عبّرت عن هذا. لا يمكن أن تخنقوا بلداُ كي تخنقوا فيروساً. لا يمكن أن تضعوا محاربة الفيروس كأولوية من دون فرض الصحة العامة كأولوية في الوقت نفسه.

لأنّ جعل محاربة الفيروس من دون جعل الصحة العامة للناس أولوية يترتّب عليها تحويله إلى عدو أمني.

وبما أنّ الأمن لا يملك عقاقير ولقاحات ضدّ فيروس، صرنا إلى مواجهته بأدوات الأمن. وبالنتيجة إلى مواجهة مع السكان، أو قسم منهم، السير بالكتلة العظمى من السكان نحو انسداد السبل بها من كلّ حدب.

بالنسبة إلى نظام القفل، الناس ضحية الفيروسات ومطيتها في الوقت نفسه. فمن دون البشر ما كان للفيروسات أن تتنقل. إذاً، فلا حاجة إلى اللقاح الناجح، ومن دون إيضاح آلية التلقيح ومنهجيتها، وكيفية اتّساقها مع سياسة صحية عامة لمجموع السكان، طالما أنّ فاعلية اللقاح مرتبطة بالمسار الإجمالي لإنتاج مناعة المجتمع بشكل عام تدريجياً.

نظام القفل لم يجد مفتاحه لكن وجد ضالّته: معاملة البشر كفيروسات. ثم يتفاجأ نظام القفل أنّ الكورونا ما زال ينتشر.

فوق هذا لدينا التالي:

– إعلام مدجن يعامل البشر كفيروسات.

– منظومة دولتية كاملة تعامل البشر كفيروسات.

– ساسة يعاملون البشر كفيروسات.

نحن هنا. هذا صلب الموضوع في طرابلس وفي غير طرابلس.

نظام القفل لم يجد مفتاحه لكن وجد ضالّته: معاملة البشر كفيروسات. ثم يتفاجأ نظام القفل أنّ الكورونا ما زال ينتشر

هذه حصيلة سياسة حمقاء، شرّيرة، شيطانية، تريد محاربة فيروس من دون جعل الصحة العامة أولوية، ومن دون جعل أيّ شأن اجتماعي أولوية.

المعركة التي انطفأت في طرابلس في الربيع الماضي وتجدّدت الآن هي معركة أولويات. لكنّ شرط فهم معنى الأولوية هنا: أولوية تتجاوز تأمين طحين وملح وسكر للفئات المعدمة.

بل هي معركة أولويات بمعنى هذا البلد، وبالدرجة الأولى.

معركة الجميع؟ كلمة متحايلة. تتحايل هكذا: تتكفل كل طائفة بإقامة عقد اجتماعي داخلها، فيصير الميثاق على الصعيد الوطني بين طوائف تظنّ كلّ منها أنّها أخمدت ما هو اجتماعي داخلها، إلا حين تتطلّبه بوجه طائفة أخرى، أو حين تفقد السيطرة عليه داخلها، حين تمرّ هذه الطائفة بأزمة انعدام استقرار الزعامة فيها، أو انعدام استقرار موقعها في الهرم الطائفي العام.

المعركة التي انطفأت في طرابلس في الربيع الماضي وتجدّدت الآن هي معركة أولويات. لكنّ شرط فهم معنى الأولوية هنا: أولوية تتجاوز تأمين طحين وملح وسكر للفئات المعدمة

هي أولوية الاجتماعي، في مواجهة “نظام القفل” الذي يرى مواجهة كورونا من دون جعل الصحة العامة أولوية. أي في مواجهة نظام القفل الذي يعامل المواطنين كفيروسات، وإعلام الشناعة والخساسة الذي يعامل المواطنين كفيروسات.

لكنّها أولوية لا يمكن أن تنمو بلا مشروع شامل. من دون فكرة شاملة عن البلد. الفكرة الشاملة عن البلد يعني، ولو مهما جرى ابتذال الكلمة، فكرة وطنية. إنّما الوطنية هنا “شكل” إذا ما فُصل الشكل عن المضمون. مضمون الوطنية لا يتوفر فيها من تلقائه (وهنا الفارق مع الفكر القومجي).

إقرأ أيضاً: علّوش: المناطق السنية انفجرت بسبب غياب القيادة

الوطنية شكل يتوقف على مضمونه. فإذا تضمّنت الوطنية بعداً اجتماعياً، وصار فيها هذا البعد الاجتماعي محورياً أكثر فأكثر، يكون ذلك بأن نعطي الأولوية لمن يشقى ويكدح ويبدع ويبتكر ويبحث ويسعى ويبادر، وليس للخامل و”المولود في فمه معلقة ذهب” والذي تتزايد ثرواته من دون عمل ومن دون إضافة معرفية ولا إضافة ابتكارية ولا أي شيء.

وعلى هذا يقاس كل شيء آخر، في الصحة، في الدفاع، في الخارجية، إلخ. البلد قائم على أولوية اللاعمل على حساب أولوية العمل، وعلى التغنّي بالإبداع ضدّ الإبداع، وعلى تلفيق الأوهام ضدّ الابتكار. ولأجل هذا كان طبيعياً أن يجد “نظام القفل” المقفل، القفل الذي هرب منه مفتاحه إلى الأبد، في فيروس الكورونا ضالته. وذلك للإقفال على حياة بلد بأكمله، لتسميم كل شيء حولنا وفينا.

يبقى أنّ فرض أولوية الأحياء، العمال، المبدعين، المبتكرين، المبادرين، على الخاملين، المكابرين، المنافقين، ومقدار ما أنّها ضرورة، فهي ضرورة تحاصرها الاستعصاءات الكثيرة، لكنّها تستمدّ قوّتها وسط كل هذا من أمر واحد: لا يمكن أن يبقى استعصاء النظام السياسي واستعصاء القضية الاجتماعية يُنظر إليهما كخطّين متوازيين، كمسألتين منفصلتين. لا يمكن إلا أن يحتكّا، وقد احتكّا في طرابلس، وسيحتكّان في غيرها، وحيثما كان، تباعاً. هذا طالما في المجتمع حياة. وفي المجتمع رغم كل شيء… حياة.

مواضيع ذات صلة

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….

رعب أوروبا من تقاطع ترامب وبوتين فوق سمائها

قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ…

“الميدان” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران

“الكلمة للميدان” هي اللازمة التي تردّدها قيادة الحزب في تعليقها على جهود وقف النار في لبنان وشروط إسرائيل. بين ما يرمي إليه استخدام هذه العبارة…