ثمّة مبدأ ثابت في عالم التجارة يفيد بأنّ “تسعير أيّ سلعة بليرة واحدة أو بمليون ليرة، ليس شرطاً كافياً حتّى يكون ذلك سعرها الحقيقيّ، بل عليك أن تبيعها بهذا السعر أو ذاك حتّى تثبت أنّه سعرها فعلاً”. هذا المبدأ ينسحب على السلع كلّها، وعلى سوق العقارات التي تشهد انكماشاً اليوم بخلاف العام الفائت، على الرغم من تعنّت بعض المالكين وتريّثهم في البيع وإصرارهم على عرض عقاراتهم بأسعارها القديمة والسابقة والغابرة… لكن في نهاية المطاف تكون الغلبة للمثل المصري القائل: “ساعة الكاش الغالي يبقى ببلاش”.
ما نشهده اليوم من أزمة عقارية وانكماش، لم يكن موجوداً في بدايات الأزمة في تشرين الأول من سنة 2019، بل على العكس شهدت سنة 2020 طفرةً كبيرةً في بيع العقارات وشرائها، إذ سجّلت، بحسب دراسة لـ”الدولية للمعلومات”، 82 ألف عملية بيع وشراء بقيمة 14.4 مليار دولار.
فقد أدّى تفاقم أزمة القطاع المصرفي وتراجع سعر صرف الليرة واحتجاز الودائع في المصارف، إلى هروب المودعين نحو شراء العقارات بشيكات مصرفية، ظنّاً منهم أنّ ذلك سيحافظ على القدرة الشرائية لأموالهم، بدلاً من بقائها محتجزة.
لكنّ ما حصل كان العكس تماماً.
الطلب على الإيجارات فاق الشراء والبيع
جال “أساس” على مناطق في بيروت وضواحيها لمعاينة واقع الأزمة “على الأرض”.
المحطة الأولى في “الطريق الجديدة”، مع محمد راشد السروجي، العتيق، منذ 1982، في سوق العقارات. في مكتبه التقيناه وسألناه، فأكّد أنّ الطلب على الشقق “هبط منذ 17 تشرين الأول 2019، خصوصاً في المناطق الشعبية، على الرغم من انخفاض الأسعار، لكن لا يوجد من هو قادر على الشراء”. لكن ما هي آخر “بيعة” أتمّها؟ يجيب: “في الشهرين الأوّلين من انطلاق الثورة”، في في 2019. وطوال عام 2020 لم يبع شقّة واحدة في المنطقة.
يشيح السروجي بنظره صوب مبنى مُطلّ على مكتبه، ويشير بيده إلى شقة في الطابق الأول: “أنظر هذه الشقّة، التي تراها هناك، مساحتها 80 متراً مربعاً. كان سعرها قبل الأزمة 150 ألف دولار، أمّا اليوم فيعرضها مالكها بـ95 ألفاً، ولا نجد من يُبدي استعداده لدفع هذا المبلغ”.
ثم أخذ يحدّثنا عن شقة في شارع عفيف الطيبي (قرب الجامعة العربية) مساحتها 177 متراً مربعاً: “كانت معروضة للبيع قبل الأزمة بـ250 ألف دولار، أمّا اليوم فمالكها يعرضها بـ160 ألفاً، ولا نجد لها زبوناً”.
تؤكّد هذه الأرقام أنّ أسعار الشقق في المناطق الشعبية قد انخفضت نحو 35 في المئة.
ما نشهده اليوم من أزمة عقارية وانكماش، لم يكن موجوداً في بدايات الأزمة في تشرين الأول من سنة 2019، بل على العكس شهدت سنة 2020 طفرةً كبيرةً في بيع العقارات وشرائها، إذ سجّلت، بحسب دراسة لـ”الدولية للمعلومات”، 82 ألف عملية بيع وشراء بقيمة 14.4 مليار دولار
يجزم أنّ لعبة “الشيكات” لا تنطبق على المناطق الشعبية: “زبائن هذه المنطقة كانوا يدفعون تحويشة العمر، أو يعتمدون على القروض المدعومة من مصرف الإسكان أو المؤسسة العامة للإسكان. أما أصحاب الأرصدة الكبيرة والأثرياء، فيتوجّهون إلى مناطق أخرى”.
لكنّه يؤكّد زيادة الطلب على الشقق المستأجرة: “كان إيجار الشقة 700 دولار قبل الأزمة، أي مليون ليرة، ولا يزال على حاله، مليون ليرة، لكن بات المليون يساوي 80 دولاراً فقط. ولهذا يزيد الطلب على الاستئجار، لكن لا نجد العرض الكافي. ويخلص إلى أن “استمرار الأوضاع الاقتصادية على هذا المنوال سيؤدّي حكماً إلى المزيد من الانخفاض في أسعار الشقق، خصوصاً إذا كان البائع “محروقاً” على البيع، فسيضطر حينها إلى كسر السعر بأيّ طريقة”.
الشيك بضعفين والكاش بالنصف
تعدّ بعبدا وجوارها منطقة أرفع تصنيفاً من الجانب العقاري. ماك الحداد، مدير شركة “JSK للوساطة والعقارات”، وهي من بين أقوى الشركات العقارية في لبنان، رسم لنا معادلة لفهم خارطة بيع العقارات في تلك المنطقة اليوم.
ربط الحداد عملية التسعير بـ”طريقة الدفع”، وكشف أنّ الأزمة أوجدت واقعاً جديداً مفاده أنّه “إذا كان الدفع بواسطة شيك مصرفي تكون قيمة هذا الشيك ضعفيْ المبلغ المطلوب، أمّا إذا كان الدفع كاش فيكون نصف المبلغ المطلوب”، بمعنى آخر يمكن شراء الشقة المسعّرة بـ100 ألف دولار، مثلاً، بشيك مصرفي بـ200 ألف دولار، أو بـ50 ألف دولار نقداً.
أضاف الحداد أنّ الطلب في منطقة بعبدا “انخفض كثيراً لكنّه لم يتوقّف، وغالباً مصدره المغتربون اللبنانيون، ولا يكون بالشيكات بل نقداً، لأنّ المالكين في هذه المناطق ما عادوا يقبلون الشيكات المصرفية، حتّى إنّهم يتريّثون في البيع نقداً لأّنّ أغلبهم غير مقتنع تماماً بالأسعار المعروضة”.
سألنا الحداد عن آخر بيعة أجراها، فيشير إلى أنّها كانت قبل أقلّ من شهر، وهي شقة “مساحتها 200 متر مربع، كانت معروضة قبل الأزمة بـ450 ألف دولار نقداً، وبيعت بـ850 ألفاً بشيك مصرفي، أي فعلياً قرابة 200 ألف إذا حسبنا المبلغ على الدولار الكاش”. وكمثال آخر، تحدّث الحداد عن شقة مساحتها 130 متراً مربّعاً، باعها بـ240 ألف دولار بشيك مصرفي، أمّا هذه السنة فباع شقة مشابهة في المبنى نفسه بـ120 ألف دولار نقداً. أي أنّ الأسعار انخفضت 50 % على الورق.
إذا كان الدفع بواسطة شيك مصرفي تكون قيمة هذا الشيك ضعفيْ المبلغ المطلوب، أمّا إذا كان الدفع كاش فيكون نصف المبلغ المطلوب
“العقار مقابل الغذاء”
أستاذ استراتيجيات الاستثمار في الأسواق العقارية بالجامعة اللبنانية الأميركية، جهاد حكيّم، يقول لـ”أساس” إنّ “العقارات في لبنان خسرت بين 65 و75% من قيمتها، لأنّ السوق مأزوم منذ ما قبل ثورة 17 تشرين الأول، وبات اليوم مقتصراً على العرض الكثير والطلب المعدوم”.
وبحسب حكيّم، يستند الطلب على العقارات في لبنان على ثلاثة:
1- المغتربون: الذين تضررت أعمال جزء منهم بسبب جائحة كورونا، فيما الجزء الآخر محبَط من الوضع اللبناني، ويترقّب التدهور الاقتصادي ويتريّث، أو لا يجرؤ على الاستثمار، أو لا يريد ذلك نهائياً.
2- القروض السكنيّة: المجمّدة اليوم تماماً، خصوصاً أنّ الشركات والمؤسسات تفلس وتقفل أبوابها وتصرف الموظفين، فتنعدم بذلك المداخيل الضرورية لدفع أقساط القروض، وينعدم بدوره الطلب المرتكز عليها اليوم.
3- المودعون المحليّون: الذين احتُجِزت أموالهم في المصارف، واشترى بعضهم العقارات بودائعه، لكنّه “أكل الضرب” وخسر مرّتين.
اعتبر حكيّم أنّ “هؤلاء هم مصادر الطلب على العقارات، واستمرار الأزمة الاقتصادية سيطيل أمد الأزمة العقارية”، ولا يستبعد أن “تستمر حتى عام 2024، خصوصاً أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة باقٍ حتى عام 2023، ولن تحصل إلى ذلك الوقت تغييرات جوهرية في السياسة النقدية اللبنانية”.
أستاذ استراتيجيات الاستثمار في الأسواق العقارية بالجامعة اللبنانية الأميركية، جهاد حكيّم، يقول لـ”أساس” إنّ “العقارات في لبنان خسرت بين 65 و75% من قيمتها، لأنّ السوق مأزوم منذ ما قبل ثورة 17 تشرين الأول
أمّا عن الخسارتين، فيعتبر أنّ “هروب المودعين إلى القطاع العقاري كان خطأً فادحاً”، لأنّ أفضل طريقة للتحوّط في حينه كانت “القناعة”. فلو اقتنع المودعون بخسارة 25% من ودائعهم وسحبوها بدايات الأزمة ولم يهربوا إلى شراء العقارات، لكانوا ربحوا مرّتين.
وسأل حكيّم: “من اشترى شقة بمليون دولار في بدايات الأزمة بموجب شيك مصرفي ويريد أن يبيعها اليوم نقداً، فهل ارتفع ثمنها؟ قطعاً لا، ربّما يبيعها بـ1.5 مليون دولار بموجب شيك، أو بـ375 ألف دولار نقداً. فلو وافق على حسم 25% من وديعته مقابل حصوله على الكاش في بدايات الأزمة، لكان المليون دولار الذي بحوزته يساوي الآن 750 ألف دولار كاش، ولكان ربح الضعفين. أمّا اليوم فقد خسر مرّتين، وفي كل مرّة خسر الضعف”.
إقرأ أيضاً: 2021: عام الانهيار في أسعار العقارات
مستقبل القطاع العقاريّ مجهول
أمّا عن مستقبل القطاع العقاري فيرى حكيّم أنّ عوامل إضافية جديدة ستزيد من منسوب الضغط على الأسعار، وهي “الرقمنة” (Digitization)، التي جعلت إنجاز الكثير من الأعمال يكون Online. وهذا يخفض الطلب على العقارات. فقدت أماكن التسوق، مثل الـMall أو السوبرماركت، بعضاً من زبائنها لمصلحة التسوّق Online. وجعل التعليم الجامعي عن بُعد الطلّابَ يستغنون عن استئجار الشقق والاستوديوهات.
هذا كلّه ينبىء بمستقبل مجهول للقطاع العقاري. وقد يلجأ كثيرون، ممّن لا يملكون المداخيل، إلى بيع عقاراتهم من أجل توفير أسباب الحياة ودفع أقساط الجامعة والمدرسة لأولادهم أو من أجل تسهيل الهجرة.
في السنوات المقبلة، قد تتّجه أسعار العقارات إلى مزيد من الانخفاض.
من يدري؟
لعلّ عقارب الساعة تعود إلى الوراء، ويمسي في الإمكان شراء شقة في بيروت بـ50 ألف دولار “كاش”!