في الموروث الشعبي العراقي، توافق العراقيون منذ أيّام الانتداب أو الاحتلال البريطاني، على إطلاق اسم “أبو ناجي” على الوجود الإنكليزي في بلادهم، وتطوّر الأمر حتى سرى هذا الاسم على كلّ متعاون مع هذا الاحتلال، وأصبح إطلاق صفة “أبو ناجي” على أيّ شخص، كافيًا للتعريف به كعميلٍ أو متعاون مع الاحتلال.
وبغضّ النظر عن أساس هذه التسمية، وأنّ إحدى الروايات تعيدها إلى تعاون أحد الوجهاء في بغداد يسمّى بـ”أبي ناجي” مع الاحتلال البريطاني، بحيث صار وسيطًا في مختلف الأزمات والمشاكل التي ترتبط مع هذه القوات الشعبية والرسمية والعشائرية، فإنّ الأمر له علاقة بالمزاج العراقي الذي لا تفوته الفرصة في إطلاق الألقاب والأسماء التوصيفية، باعتبار لحظة تجلٍّ أو يأس لتكون تنفيسًا عن ضيقه مما يجري حوله.
وفي الوقت نفسه الذي كان العراق تحت الاحتلال البريطاني، كانت إيران مقسّمة بين احتلالين، واحد روسي في الشمال والشمال الغربي، وآخر بريطاني في الجنوب والغرب حتى العاصمة طهران. لذلك فإنّ النفوذ البريطاني في المؤسسات العريقة الإيرانية الرسمية وغير الرسمية والدينية منها، كان كبيرًا وواضحًا، وقد استمرّ هذا الدور والنفوذ إلى فترة حركة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق عام 1952 والانقلاب الذي قام به على سلطة الشاه، ومحاولة تحويلها إلى ملَكية دستورية. وانتقلت بعدها الوصاية إلى اللاعب الأميركي الذي بدأ يأخذ ويسيطر على مناطق النفوذ البريطاني.
وإذا كان البريطاني خلال نفوذه يتحكّم بالعملية السياسية واختيار نواب الأمّة، فإنّ الحوزة العلمية في مدينة قُم لم تكن بعيدة عن هذا الدور والنفوذ. حتى أنّ اتّهامًا بالتعاون مع البريطاني وُجّهَ إلى مؤسّس هذه الحوزة آية الله عبد الكريم الحائري اليزدي عام 1922.
ولا يتردّد العديد من رجال السياسة – الثوريين وحتّى الليبراليين – من الغمز من قناة الحوزة الدينية حتّى بعد انتصار الثورة، متّهمين الحوزتين النجفية والقُمّية بالشبهة البريطانية. وفي الموروث الشعبي الإيراني أيضًا، هناك مقولة بأنّ البريطانيين يقفون وراء أيّ حدث يجري في بلادهم، وهم يعرفون أكثر من الإيرانيين عن أوضاعهم وسياساتهم.
وقد وصلت الأمور بالسيد كمال الحيدري، الذي يُعتبر من رجالات العلم في الحوزتين النجفية والقُمّية، أن قالها صراحةً: بأنّ بريطانيا لها دور في من يصل إلى المرجعية في كلّ من النجف العراقية وقم الايرانية، وبسبب عدم علاقته بالبريطانيين لم يحصل على اعتراف بمرجعيته.
في الوقت نفسه الذي كان العراق تحت الاحتلال البريطاني، كانت إيران مقسّمة بين احتلالين، واحد روسي في الشمال والشمال الغربي، وآخر بريطاني في الجنوب والغرب حتى العاصمة طهران
لكن لماذا هذه المقدمة، ولماذا التصويب على هذه العلاقة الإشكالية مع البريطانيين في الموروثين الشعبيين العراقي والإيراني، ولماذا استدعاء هذه الوقائع في هذه المرحلة؟
هذه الأسئلة وغيرها تفرضها التصريحات الأخيرة التي أدلى بها السفير البريطاني في بغداد “ستيفن هيكي” في لقاء مع إحدى القنوات التفلزيونية العراقية، أكّد خلاله الدور الإيجابي الذي يلعبه رئيس الوزراء الموقت مصطفى الكاظمي، في تخفيف التصعيد بين أميركا وإيران، ليس فقط على الصعيد المتعلق بالساحة العراقية، بل على مستوى التوتر الذي سيطر بينهما.
تصريحات السفير البريطاني تأتي في وقت تستقبل بغداد رئيس السلطة القضائية الإيرانية إبراهيم رئيسي، حاملًا معه تأكيدًا من المرشد الأعلى، على تعميق التعاون والتنسيق بين الحكومتين والبلدين على مختلف المستويات القضائية والسياسية، والأمنية والاقتصادية وحتّى البرلمانية. وهي زيارة قد يكون الكاظمي في أشدّ الحاجة لها لمواجهة ما يتعرّض له من حصار داخلي من حلفائه أو المشاركين معه في العملية الحكومية على حدّ سواء. خصوصًا وأنّ هذه الزيارة تتزامن مع الانتشار العسكري الذي نفّذته ميليشيا “سرايا السلام” التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في بغداد وكربلاء والنجف، على حساب دور القوات العسكرية والأجهزة الأمنية وموقعها، والتي قد تسهم في تعميق أزمة الحكومة التي رفعت شعار استعادة هيبة الدولة وحصريّة السلاح.
وبغضّ النظر عن المسوّغات التي قدّمها التيار الصدري عن دوافع وأبعاد الانتشار الذي نفّذه، ومحاولة توجيه رسائل “غزل” إلى جميع الأطراف بما فيها الجانب الإيراني في البيان الصادر عن زعيمه، لا بدّ من الإشارة إلى ما جاء في البند الرابع عشر منه، الذي دعا “المحتلّ إلى الانسحاب فورًا بالطرق الدبلوماسية والبرلمانية، لتجنيب العراق أن يكون ساحة للصراعات الدولية والإقليمية”. وهذا موقف جاء بالتزامن مع موقف رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي فائق زيدان، الذي يستضيف نظيره الإيراني رئيسي، بعدما أصدر القضاء العراقي حكمًا باعتقال ومحاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بسبب دوره في اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قائد أركان الحشد الشعبي العراقي.
طهران تسعى لإعادة صياغة علاقتها مع الساحة العراقية باعتماد آليات جديدة تُخرجها من حصريّة التعامل مع جماعات وفصائل وأحزاب موالية لها أو متحالفة معها، إلى دائرة الانتقال للتعامل مع الدولة ومؤسساتها، وبالتالي التقدم خطوة باتجاه تمهيد الطريق للتلاقي مع الإرادة الدولية، خصوصًا الأميركية الساعية لإعادة ترتيب الساحة العراقية من منطلق تعزيز دور الدولة وتحجيم نفوذ القوى على حسابها.
هذه الأسئلة وغيرها تفرضها التصريحات الأخيرة التي أدلى بها السفير البريطاني في بغداد “ستيفن هيكي” في لقاء مع إحدى القنوات التفلزيونية العراقية، أكّد خلاله الدور الإيجابي الذي يلعبه رئيس الوزراء الموقت مصطفى الكاظمي، في تخفيف التصعيد بين أميركا وإيران
وكلام السفير البريطاني عن دور حكومة الكاظمي في الحدّ من التوتر والتصعيد بين المتنافسَيْن أو المتصارعَيْن الأميركي والإيراني على الساحة العراقية، يكشف الدور المؤثّر الذي تلعبه البعثة البريطانية على هذا الصعيد. خصوصًا وأنّ هذا السفير وسفارة المملكة البريطانية، لعبت وتلعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن في العراق، وتسهّل حوارًا غير مباشر بين سفيري إيران وأميركا، الجنرال “إيرج مسجدي” و”ماثيو تولير”، وقبله السفير دوغلاس سيليمان. وهذا ما سمح بالتوصل إلى كثير من التفاهمات التي شكلت أساسًا ومنطلقًا لكثير من الحوارات المباشرة والسرية بين طهران وواشنطن في عواصم أخرى، في محاولة لبناء آليات تُخرج العلاقة بينهما من الأزمة التي وصلت إليها، نتيجة سياسات الرئيس السابق دونالد ترمب في العقوبات والحصار الاقتصادي.
إقرأ أيضاً: إيران تريد اتفاقًا نوويًّا جديدًا… كذلك بايدن؟
دخول السفير البريطاني العلني إلى الصراع الإيراني الأميركي على الساحة العراقية، وإن كان من بوابة التأكيد على دور حكومة الكاظمي في هذا السياق، يكشف الدور التاريخي الذي يلعبه وما زال “أبو ناجي”، في هذه المنطقة، خصوصًا في مناطق نفوذه القديمة، وأنّه كان قادرًا، وما يزال، على تدوير الزوايا بين الأطراف المعنية في أزمات هذه المناطق، بناءً على معرفته الإنثروبولوجية والسياسية التي تحكم مكوّناتها العرقية والدينية والثقافية.