بين اليأس والهجرة والانفجار (1/2): السُنّة بلا قيادة

مدة القراءة 7 د

عادت المدن والنواحي ذات الأكثرية السنية في لبنان إلى التظاهر. وفي العادة فإنّ الجيش إذا انفرد بالسُنّة في الشارع يكون قاسياً عليهم. أما إذا كان المتظاهرون من شيعة الحزب ورئيس مجلس النواب فيدعهم وما يريدون، وفي أقصى الحالات، فإنه يقف بينهم وبين المتظاهرين الآخرين. أما إذا كانت بين المتظاهرين كثرة من المسيحيين، فإنّ الجيش لا يتعرض لهم إلاّ إذا سدُّوا طرقات رئيسية. السبب المعلَن للخروج السني هذه المرة هو السخط على قرار الإقفال العام، الذي تسبب بالمزيد من الفقر والحاجة إلى حدود المجاعة. وبالفعل فإنّ المدن والنواحي السنية هي الأكثر فقراً في لبنان أو أنها الأكثر تفاوُتاً في مستوى المعيشة ونوعيتها، فهناك الطبقة المتوسطة إلى الأغنياء جداً، وهناك أحياء مشهورةٌ للفقر والحاجة حتى الجوع.

وقد سبق لأُناس من شمال لبنان أن حاولوا الهجرة مع عائلاتهم من شواطئ طرابلس فمات العديد منهم، ومع ذلك أصروا ثانياً وثالثاً على محاولات الهرب بالزوارق المكتظة مع أطفالهم. وعندما تتحدث إلى مسؤولين في الأجهزة وأمن الجيش ينفون بالطبع أن يكون هناك استهداف لعوامّ السُنّة، وإنما يحدث الصدام العنيف أحياناً بسبب سرعة التفلت من جانب المشاركين باتجاه العنف والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة.

هناك من يقول من المراقبين إنّ السُنّة، أو العامة منهم على الأقلّ، هم الأكثر سخطاً بين الطوائف اللبنانية لإحساسهم أكثر من غيرهم بعدم الأمان، وضياع حصتهم في نظام المحاصصة اللبناني، وفي عهد عون بالذات الذي يكرهونه ويكرههم، ويكرهون على وجه الخصوص صهره وولي عهده جبران باسيل

أما هذه المرة فإنّ الصدام حدث، لأنّ هناك قراراً بالإقفال العام بسبب استيلاء الوباء. والجيش والقوى الأمنية مكلفةٌ بتطبيقه بلا هوادة. ومع ذلك هناك من يقول من المراقبين إنّ السُنّة، أو العامة منهم على الأقلّ، هم الأكثر سخطاً بين الطوائف اللبنانية لإحساسهم أكثر من غيرهم بعدم الأمان، وضياع حصتهم في نظام المحاصصة اللبناني، وفي عهد عون بالذات الذي يكرهونه ويكرههم، ويكرهون على وجه الخصوص صهره وولي عهده جبران باسيل.

ذكر لي عجوز بيروتي أنه  فقد أخأً له بالقصف العشوائي في  حرب التحرير، وفقد والده سائق التاكسي في حرب الإلغاء. والحربان شنهما يومها في أواخر الثمانينات قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية الجنرال ميشال عون. وقلت له: هذه ذكريات بعيدة. فقال: لكنْ ليس الفقراء مثلي هم الذين لا يحبون هؤلاء الناس فقط، بل الطبقات الوسطى السُنّية وكثير من الأغنياء السُنّة. إذ منذ احتلال بيروت من جانب الحزب عام 2008 وقبل ذلك في حصار السراي، وبعد ذلك في إسقاط الحكومة عام 2011، الحزب هو الذي قام بذلك كله، والعونيون كانوا الأكثر صراحةً وتبجّحاً في نبذ المسلمين السُنّة، وفي الوقت نفسه هم الأكثر شراهةً وتعفناً وفساداً وإفساداً في أجهزة الدولة والوزارات التي تولّوها منذ العام 2008 وحتى اليوم. وها هم يعودون للتعبيرعن كراهيتهم لسعد الحريري بشتى الوسائل مع أنه أعطاهم ما لم يعطه أحد منذ الاستقلال عام 1943. وقلت أخيراً للسنّي المفجوع: ألا تظن أنّ الحريري يمكن أن يستفيد من هذه التظاهرات؟ فضحك غصباً عنه وقال: الحريري لا يستطيع الإفادة حقاً حتى من نزول الملائكة لنصرته مثلما نزلت لنصرة النبي (ص) يوم بدر.

هذه المرة وفي طرابلس بالذات ومع طرابلس، وقد أُحرقت البلدية والمحكمة الشرعية وأُتلفت المملتكات العامة والخاصة، وجرت محاولات لاقتحام السراي. هذه المرة الكل مذنبون وأولهم الطرابلسيون الفقراء والأغنياء، وقبلهم وبعدهم العصابة المسلحة التي تظهر في كل مكانٍ وتفعل ما تشاء.

أيها الطرابلسيون: كيف تحرقون بيوتكم بأيديكم؟ وكيف تسمحون لقطّاع الطرق والنصاّبين والعملاء للأجهزة المعلومة والمجهولة أن يتحكموا بكم وبمصائر مدينتكم؟

الدكتور فارس سعيد المسيحي الماروني يبدو أعلى صوتاً. فهو يطالب باستقالة الرئيس بسبب مخالفاته للدستور، ومنح الدولة للحزب وإيران، وما ارتفع صوت سياسي سنّي إلى هذا الحدّ حتى الآن

منذ ثلاثين عاماً تشكون من الجيش والقوى الأمنية: ألا تستطيعون أن تُسلّحوا حراس البلدية أو تعملوا شركات أمنية لحماية بيوتكم ومرافقكم وأرواحكم يا ناس؟ نقول من عقود: لن تخضع طرابلس ولن ينجحوا في كسر روحها.

لقد نجحوا من زمان، وصارت عصابة مختلطة من عملاء الأجهزة والتنظيمات والمجرمين تتحكم بفقراء المدينة وأغنيائها. تخشون الأمن الذاتي، وتقبلون بالفلتان الذاتي. لو قبل وليد جنبلاط ما قبلتموه لصار وئام وهاب حاكماً للشوف. نعم نحن الذين قتلنا الشاب عمر طيبا ليل الأربعاء الماضي، والأغنياء قبل الفقراء، وقبلنا وبعدنا قتلته العصابة المسلحة والأجهزة العسكرية والأمنية.

وماذا تفعلون أنتم رؤساء الحكومة، رؤساء السلطة التنفيذية؟ أنتم عاجزون للمرة المائة كما يظهر من بيانكم العتيد: إذن خُذ يا حسان دياب – وقد عجزت عن إقناع الفاتح نابليون بعقد أي اجتماع من أجل طرابلس – وخذوا أيها السادة الخيار الذي طالبكم به وليد جنبلاط: الاعتزال وترك المهضوم والمعصوم يحكمان. بدلاً من التصدي للمسؤوليات والعجز عن القيام بها.

وعلى أي حال، أحسب أنّ السُنّة جميعاً هم اليوم الأكثرسخطاً على كل الأطراف السياسية، وفي الطليعة الرئيس وجبران باسيل وحزب الله… والحريري، وإن تعددت الأسباب واختلفت بين طرفٍ وآخر. وأحسب أن الطائف والدستور هما الأكثر خسارةً بسبب تفاقُم السخط السني على الجميع. فالعامة السنية معرفتها بالدستور لا تزيد على معرفة عوام الطوائف الأخرى. لكنّ الطاقم السياسي السنّي، والفئات الوسطى السُنّية كانت الأشدّ تشبّثاً بالدستور. وذلك بسب الوعي الذي نشره في أوساطهم الرئيس رفيق الحريري بضرورة العودة إلى الصيغة اللبنانية وتقديسها بعد التعديل في دستور الطائف، ولاعتقادهم (واعتقاد بورجوازيي الطوائف الأخرى) وإن بدون حقّ، أن السُنّة هم الأكثر إفادةً من نظام الطائف لأنّ رئيس الحكومة منهم وهو رأس السلطة التنفيذية التي قويت كثيراً بحسب وثيقة الوفاق الوطني والدستور. ولذلك كله علاقة بأُطروحةٍ كنتُ قد كتبتُ عنها مراراً في “أساس”، ومؤدّاها أنّه تسود لدى المسيحيين والشيعة، منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، راديكاليتان تتفاقمان في الأزمات، وتحصلان على الأكثرية داخل كل طائفة مزاجاً وعملاً. أما لدى السُنّة فهناك دائماً أقلية راديكالية، أما الأكثرية بين السُنّة فتبقى معتدلة، وتحسب للآخر المسيحي والشيعي حساباً، وتميل لإعزاز الدروز، وتفضّل التوازُن وعدم السير في أي نزاعٍ داخليٍّ إلى النهاية.

إقرأ أيضاً: علّوش: المناطق السنية انفجرت بسبب غياب القيادة

والذي يبدو الآن (وأرجو أن لا يصبح ذلك ظاهرةً مستقرّة) أنّ هناك مرارةً شديدةً لدى معظم السُنّة من السلوك السياسي ومن الممارسة السياسية في لبنان. وقد بدا ذلك إيجابياً عندما نشبت ثورة تشرين وكان السُنّة في قلبها. أما اليوم فلم تبق مع الطائف والدستور(حتى بين الطاقم السياسي، والآخرين المهتمين  بالشأن العام) غير أصوات وأقلام معدودة كلها سنية بالطبع، ولكنها تكرر التصريحات والكتابات نفسها بشأن التمسك بالثوابت. إنما حتى في هذا المجال فإنّ الدكتور فارس سعيد المسيحي الماروني يبدو أعلى صوتاً. فهو يطالب باستقالة الرئيس بسبب مخالفاته للدستور، ومنح الدولة للحزب وإيران، وما ارتفع صوت سياسي سنّي إلى هذا الحدّ حتى الآن.

 

في الجزء الثاني غداً: ماذا عن الطوائف اللبنانية الأُخرى ومزاجها السائد اليوم؟

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…