حين أعلن ألكسندر نجار النبأ السار على صفحته في 14 من الشهر الجاري، لم يُفاجأ القراء والمتابعون بنيله “جائزة الفرنكوفونية الكبرى” من الأكاديمية الفرنسية. بحلول 35 عامًا على تكريس الأديب اللبناني نفسه للفرنكوفونية في الرواية والأدب والقيم، لاح الحدث بمثابة “مسألة وقت” حان تتويجها.
توقيت الجائزة في زمن لبنان الأسوأ والأخطر يراه نجّار “فرصةَ تأكيد جديد لخصوصية لبنان ودوره الريادي في الثقافة”، مضيفاً: “رصيد لبنان هو الثقافة والكلمة الحرة. إنها الحقيقة المطلقة التي تعزز حضوره عالمياً، وتنفي نفياً قاطعاً محاولة البعض التمسك بذريعة أنّ الحصول على الصواريخ هو النافذة الوحيدة لفرض لبنان على خريطة العالم”
الصحافي والأديب والمحامي والدبلوماسي الفرنكوفوني هو ابن الحرب اللبنانية، يتسامى في جرحه على الورق: “لقد محوت خطوط التماس في الحرب، وتلك الفاصلة بين الخيال والواقع”.
عن عمر لم يتجاوز 53 عامًا، راكم أكثر من ثلاثين مؤلفًا باللغة الفرنسية بين الرواية والشعر والمقالة والسيرة. أصدر في حزيران الماضي أوّل عمل أدبي، عالمياً، حول كورونا، في مجموعة قصص بعنوان “التاج اللعين”، جائلاً على المعاناة في ثمانية بلدان. ثم كتب فيلم “زمن كورونا” الذي عرض بعد تأجيل بثّه في مساء 4 آب.
مأساة المرفأ بلورت التزام نجّار. فهو يكتب بلا هوادة عن العائلات المكلومة والعاصمة الشهيدة ويواصل هجاءه للطاقم السياسي الذي “بلغ ذروة الغباء وانعدام المسؤولية والفساد”. يلاحق التحقيقات ويشارك تطوّراتها، كأنّ لسان حاله لا يزال يردّد: “لن ينتزعوا مني بيروت!”، منذ تأليفه “رواية بيروت” التي وثقت لأربعة أزمنة تدور في مدينة “محتلة، ممزّقة، لكن دومًا متأهّبة للنهوض”.
الصحافي والأديب والمحامي والدبلوماسي الفرنكوفوني هو ابن الحرب اللبنانية، يتسامى في جرحه على الورق: “لقد محوت خطوط التماس في الحرب، وتلك الفاصلة بين الخيال والواقع”
يصحّ في فرنكوفونية نجار القول إنّها “جمعت المجد من أطرافه”. الرئيس الحالي لملحق “لوريان الأدبي”، عمل مستشاراً لوزير الثقافة غسان سلامة، وتولّى الشؤون الفرنكوفونية في بيروت وفي نقابة المحامين في بيروت، وترأس “لجنة تحكيم الأدب” خلال الألعاب الفرنكوفونية، وأنشأ وترأّس جائزة “فينيكس” التي تجسد إطلالة رحبة للفرنكوفونية على الأدب الفرنسي والعالمي.
أحرز ألكسندر نجار في تشرين الأول الماضي الميدالية الذهبية لـ”النهضة الفرنسية” عن مجموع أعماله، وأهداها إلى بيروت. مؤلفاته تسترسل بين التوثيق والنوستالجيا اللبنانية، أمثال “فينيسيا”، “مدرسة الحرب”، “أوراق جبرانية”، “ديغول ولبنان”، “قاديشا”، “قاموس الحب اللبناني”، “دروب الهجرة”، “الفلكي”، وغيرها.
جدير بالذكر أنّ الجائزة الجدية، وقيمتها 30 ألف أورو، سجّلت مفارقة نادرة لأنه حاز على تقدير الأكاديمية الفرنسية في إجماع منذ الدورة الأولى لانعقاد الجائزة الفرنكوفونية الكبرى، وهي عادة ما تستغرق جلستين أو ثلاثاً. لبنانياً، كان سبقه إليها زميلاه الأكبر سنّاً في “لوريان الأدبي”، جورج شحادة (1986- في السنة الأولى للجائزة)، وصلاح ستيتية (1995)، ثم انتخب أمين معلوف عضواً في الأكاديمية (2011).
ثالث لبناني في عضوية “الأكاديمية الفرنسية للعلوم لأقاليم ما وراء البحار”، يواصل نجار استحقاقاته اللامعة ومنها: جائزة آسيا للآداب، جائزة البحر الأبيض المتوسط، وجائزة “هيرفيه ديلوين” من الأكاديمية الفرنسية، وجائزة معرض الكتاب في شومون عن روايته “هاري وفرانز”، ووسام الاستحقاق المدني من فئة كوماندور، بتوقيع ملك اسبانيا خوان كارلوس الأوّل.
ينتمي ألكسندر نجار إلى عائلة مسيحية مارونية من دير القمر في قضاء الشوف. ولد في 5 شباط 1967 ونشأ في الأشرفية. سليل جوزيف دامياني الذي رافق بونابارت، من كورسيكا إلى حملته في مصر، ثم اختار الاستقرار في لبنان حيث عمل نجّارًا. والده روجيه نجّار محامٍ ومتخصّص في القانون البحري. درست والدته، نهى، القانون وعلم النفس قبل أن تكرّس نفسها لتربية أبنائها الستة، وأكبرهم ألكسندر.
يصحّ في فرنكوفونية نجار القول إنّها “جمعت المجد من أطرافه”. الرئيس الحالي لملحق “لوريان الأدبي”، عمل مستشاراً لوزير الثقافة غسان سلامة، وتولّى الشؤون الفرنكوفونية في بيروت وفي نقابة المحامين في بيروت، وترأس “لجنة تحكيم الأدب” خلال الألعاب الفرنكوفونية
برزت بوادر الموهبة في طفولته المبكرة على مقاعد المدرسة اليسوعية Collège Notre-Dame de Jamhour ، حيث تميّز نجار بإتقان ممتاز للغة الفرنسية. كان فضوله يجذبه لقراءة سيَر شخصيات تاريخية فرنسية شكلت مادة خام لأدبه فيما بعد، أمثال بونابارت وديغول. في مقابلة على فرانس 24، شبّه اللغة الفرنسية بـ”امرأة جميلة وصعبة المراس”، لكنّه يصف علاقته معها بـ”الغرام”.
وتوالت النبوءات. مسؤول “لوريان الأدبي” أصدر أوّل جريدة ناطقة بالفرنسية في العالم العربي، وهو في سنّ الـ13 فقط. كان يؤجّرها لعائلته ورفاقه لقاء مبلغ صغير، وأحياناً يقايض الإيجار بكتاب.
أوّل رواية لنجار كتبها في سن التاسعة، وكانت بمثابة شراكة عائلية. مهر روايته البوليسية برسومات شقيقه. وتولت والدته طباعتها على الداكتيلو. يحبّ نجّار هذا التواطؤ العميق بينه وبين والدته. خصّها برواية قائمة على استعارة مجازية استوحاها من اهتمام الأم بالبستنة والعناية بالزهور، فاختار منها زهرة “ميموزا” ليرمز إلى خصالها في الطمأنينة والقوّة والحبّ الوافر، وجعلها عنوان الرواية التي كتبها بعد وفاتها: “في لغة الأزهار، تعبّر ميموزا عن الأمان، الحبّ اللامشروط، الحنان والرقة. هي رمز للذهب وللشمس، وهي بسبب قساوة عودها، صورة الحياة المظفّرة والنصر على قوى الشرّ. حتمًا، يا أمي هذا اللقب يناسبك جيّدًا”.
من الرسائل السماوية اللطيفة أن يتزامن حضول نجّار على جائزته الجديدة مع ذكرى ميلاد “ميموزا”، كأنّها هدية لمن دعمت موهبة ابنها حيث كانت وصارت.
أوّل رواية لنجار كتبها في سن التاسعة، وكانت بمثابة شراكة عائلية. مهر روايته البوليسية برسومات شقيقه. وتولت والدته طباعتها على الداكتيلو
احتضان آخر حصل عليه في مرحلة الشباب: قدّمت فرنسا لألكسندر نجّار البداية، وهو أكمل الطريق. سافر لدراسة الحقوق في جامعة باريس II وتخصّص في القانون المالي. سطعت موهبته في باريس حيث انتقل من كتابة خواطر اعتبر أنّها ردّ فعل طبيعي في سنين الشباب الأولى، إلى نشر أوّل رواية في دار غراسيه، بعنوان “Les exilés du Caucase” وعنوانها بالعربية “دروب الهجرة”. هذه الوثبة النوعية بعد فوزه بمسابقة طالبية لـ”مؤسسة هاشيت”، حيث قدّم مخطوطاً عن مشروع روايته. ثم حاز على جائزة مدينة باريس للشعر عن قصيدة حول الرقص.
إقرأ أيضاً: الكاتب اسكندر نجار: ثالث لبناني في الأكاديمية الفرنسية للعلوم في المهجر
نجّار ليس جاحداً للقدر الذي منّ عليه بالفرص. يشكل اليوم عملة نادرة في دعم الشباب اللبنانيين المبدعين، سواء في الأدب أو في التمثيل والموسيقى. اجتماعي ومحبوب، لا يكتفي بانتمائه للنخبة المثقفة، بل فهم حقّاً أنّ نخبويته لا تتكرّس في الأبراج العاجية، ففعّلها بين الناس ولأجلهم: “بعد انتهائي من كتابة رواية “التاج اللعين” شعرت بضجر كبير. أشتاق للتواصل مع الناس”، يقول في شهور الحجر الأولى. أمّا عن الدّرس الأهم الذي تعلّمه من كورونا، يرى أنّه “درس في التواضع”.
وسط الاضمحلال الشامل في لبنان، يتجسّد في ألكسندر نجار جانب المسيحي المؤمن الذي ألهمته حياة القديس يوحنا المعمدان، وكان يتردّد إلى كنيسته في الأشرفية، ثم خصّه بكتاب عن سيرته لأسباب عديدة منها ما يشبه واقع الكاتب اليوم: “لقد امتلك الشجاعة ليتخلّى عن كل شيء ويبشّر في الصحراء”.
ليس جديدا على نجّار، سواء في تجارب الحياة أو تعاليم الإنجيل، الحكمة القائلة: “لا كرامة لنبيّ في وطنه”، لكنّ رصيده المتنامي من القرّاء سواء في لبنان أو خارجه، ينتظرون بشوق روايته التي ستصدر في آب المقبل عن دار بلون، لأجل الثقافة والفرنكوفونية والإنسان ومن يقدّر هذه القيم حقّ التقدير.
محزن ومخجل إلى حدّ بعيد ألا يُكرم وزير الثقافة اللبناني ألكسندر نجار ولو بمنشور سريع، بينما منحته فرنسا أعظم جوائزها.