يستمر رؤساء الحكومة السابقون، أو ما يمكن وصفه بـ”السنيّة السياسية”، في اختلاق تبريرات للتراجع عن مضمون وفحوى الاجتماع الذي عقد بينهم وبين وليد جنبلاط. بفعل التردد عن الإقدام السياسي لاستعادة التوازن الوطني.
في سبيل تبرير التراجع، يستحضر فوراً شعار “عدم استفزاز المسيحيين”، مع ما يعنيه ذلك من وضع هؤلاء أنفسهم أمام معادلة “الرضوخ لما يريده الآخرون”. فيصبح السنّة في الموقع الخاضع للابتزاز دوماً. ومخاطر هذه المعادلة لا تختلف عن مخاطر المعادلة التي نجح حزب الله في تكريسها مع جميع القوى السياسية، بفرزها بين “الوطنية” أو “العميلة”، بمقدار ما تلتقي مع طروحاته أو تتلقّى أوامره أو تسكت عن مشروعه. فأصبح كلّ معارض لحزب الله متّهماً بالخيانة والتآمر والعمالة، وكلّ من يعارض إطاحة رئيس الجمهورية بالدستور ويسعى إلى الحفاظ على التوازنات السياسية معرّضاً للاتهام بالتطرّف أو الداعشية السياسية، بناءً على شعار رفعه التيار الوطني الحرّ في العام 2015 واصفاً تيار المستقبل بـ”الداعشية التي ترتدي ربطة عنق”.
في هذا المجال، لا بد من التأكيد على أنّ معارضة عون وعهده وصهره لا تعني معارضة المسيحيين، لا بل أقصى حاجات المسيحيين هي الشروع في بناء مشروع سياسي يؤسس إلى مجتمع لبناني منصهر وطنياً لا طائفياً، تحت سقف اتفاق الطائف والدستور بما يحمي منطق المناصفة ويحفظ الدور السياسي لكامل الجماعات في لبنان. وهنا تقع المسؤولية على عاتق “السنيّة السياسية”، بدلاً من غيابها وضياعها تحسّباً لشعارات إعلامية تستهدفها وتضعفها.
أصبح كلّ معارض لحزب الله متّهماً بالخيانة والتآمر والعمالة، وكلّ من يعارض إطاحة رئيس الجمهورية بالدستور ويسعى إلى الحفاظ على التوازنات السياسية معرّضاً للاتهام بالتطرّف أو الداعشية السياسية
وأهم ما يجب أن ترتكز عليه هذه “السنيّة السياسية”، هو العودة إلى الساحة الوطنية الرحبة، فيخرجون بذلك من “منطق الطائفة” أو المذهب، لأنّه منطق يقضي عليهم وعلى أيّ دور سياسي مؤثر من قبلهم. وطريقة الخروج واضحة: الذهاب إلى التكامل مع القوى المسيحية المعارضة لعون، وتكريس الثوابت مع البطريركية المارونية ومختلف الكنائس التي لا يمكن لها أن تكون مطية لعون لعلمها أنّ مشروع العهد شخصي ومصلحي يضرب المصلحة المسيحية الأكبر. وفي ذلك استعادة لتجربة رائدة بدأها رفيق الحريري مع “قرنة شهوان” ومع البطريرك مار نصر الله بطرس صفير.
إلى جانب خشية السنّة من “استنفار” المسيحيين واستفزازهم، لا بد من تسجيل ملاحظة على وليد جنبلاط أيضاً، الذي يحرص دوماً على عدم الظهور في مظهر المعارض للمسيحيين، والحريص على إبقاء العلاقة قوية معهم. فهو يكرّس ذلك دوماً في الجبل ومن خلال علاقته مع الكنيسة المارونية وغيرها من الكنائس والأحزاب. رغم ذلك ليس من السهل على القيادات السنّية تكرار التجربة معه لأنّها “غير مضمونة” النتائج.
المشكلة الأكبر، أنّه في اللحظة التي يبحث السنّة عن آلية للتراجع نتيجة الخوف أو الجبن لعدم الإدراك السياسي الذي يحتّم الإقدام، تخرج أصوات مسيحية كثيرة من جسم التيار الوطني الحرّ، أو من البيئة المسيحية الأوسع، ترفض الممارسات التي يقوم بها رئيس الجمهورية، وموقفها في غاية المعارضة لمشروع حزب الله، الذي يؤدي إلى انهيار ما تبقى من مرتكزات لبنانية. تأتي هذه الأصوات في لحظة تحولية كبرى، تنطوي على جرأة استثنائية ونادرة في ما تطرحه وأساسه الحفاظ على اتفاق الطائف والمناصفة، بدلاً من الذهاب إلى المثالثة التي ستقضي على لبنان وجوهره ودور المسيحيين مكتسباتهم فيه.
إلى جانب خشية السنّة من “استنفار” المسيحيين واستفزازهم، لا بد من تسجيل ملاحظة على وليد جنبلاط أيضاً، الذي يحرص دوماً على عدم الظهور في مظهر المعارض للمسيحيين، والحريص على إبقاء العلاقة قوية معهم
هذه القوى المسيحية، تتواصل فيما بينها، وتسعى لعقد مؤتمر واسع في الأسابيع المقبلة، تحت عنوان “الحفاظ على التوازن والطائف والمناصفة”. لكنّها حتماً بحاجة إلى شريك واسع يكون قادراً على احتضانها، لتعزيز مفهوم التكافل السياسي والاجتماعي بين مختلف البيئات والمكوّنات، فلا تجد نفسها وحيدة، في وقت يفترض بالسنّة الذين كان لهم المسعى الأساس في “وقف العدّ” وتكريس المناصفة، واتفاق الطائف، أن يكونوا هم أصحاب الريادة لاستعادة هذا المشروع وتثبيته.
إقرأ أيضاً: قادة السُنّة: انهيار سياسي.. وانهزامٌ نفسيّ
لكن في حالة تراجع رؤساء الحكومة أو “السنيّة السياسية”، سيجد هؤلاء المسيحيون أنفسهم في حالة “توحّد”، وسنفقد “التكافل والتضامن”، وهذا قد يمنعهم من الاستمرار في الحفاظ على الطائف. والنتيجة ستكون أن يذهبوا إلى خيارات أخطر. إذ بما أنّهم سيجدون أنفسهم وحدهم، ولم يلاقِهم السنّة والدروز وبعض من الشيعة، وتركوا وحيدين، فإنّهم سيختارون “التوحّد” في حال عجزوا عن إنتاج “الوحدة الوطنية مجدداً.
وحينها لا يكون أمامهم سوى خيار غير عاقل مثل طرح “الفيدرالية”. وهذا ما يجب أن يتنبه له الأفرقاء الآخرون ويستشرفونه. فلا يمكن للسنّة أن يتراجعوا في وقت يبحث الكثير من المسيحيين عن شريك لإعادة تعزيز الانصهار الوطني.