الدولة اللبنانية ليست معطّلة، ودستورها غير معلّق. بل هي دولة معطوبة. والعطب فيها ليس في دستورها، أو في اتفاق الطائف الذي رعى التعديلات في دستور الجمهورية الأولى لعام 1926، (أو دستور الجمهورية الثانية بعد تعديلات عام 1943 بحسب رأي الدكتور إدمون رباط)، إنما العطب في الذهنية السياسية المريضة، التي تجتاح شرائح المجتمع طولاً وعرضاً، ولا ينجو منها حتّى الثائرون منهم على هذه الطبقة السياسية، المتكافلة فيما بينها، والمتضامنة على ديمومة كراسيها وتحكّمها. وعلى هذا، لو جئنا بأرقى دستور من دساتير العالم، وأسقطناه بالمظّلة على لبنان، لأفسده السياسيون بألاعيبهم وحذلقاتهم وفذلكاتهم، وخرج من بين أيديهم مشوّهاً.
لا اتفاق الطائف مقدّس، ولا الدستور. بل لا اعتبار لأيّ قانون. وهو ما يضرب ركناً أساسياً من أركان الدولة. وتقع المسؤولية وفق الدستور نفسه على حامي الدستور وراعي مؤسسات الدولة، على رئيس الجمهورية. ومجرّد الحديث عن صلاحيات مسلوبة من رئيس الجمهورية، دليل صريح على عدم احترام الدستور. أما الوقائع فتؤكّد ليس فقط نية الانقلاب عليه فقط، بل العمل الدؤوب على تحريف مضامينه، وتفريغه من مقاصده.
في الدستور المعدّل عام 1990، ثغرات عدّة، يلحظها السياسيون والقانونيون، مثل تحديد المهلة الدستورية لتشكيل الرئيس المكلّف حكومته فلا تكون مفتوحة الأجل، وما نوع المشاركة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في أثناء التشكيل، وهل رئيس الجمهورية من يشكّل الحكومة ويعاونه الرئيس المكلّف أو العكس، وتفصيل أكثر لصلاحيات رئيس الجمهورية، وماذا يعني أن يكون رمز البلاد والحَكَم بين السلطات والأحزاب والحامي للدستور؟ (لأن الرئيس الحالي لم يعِ بعد أبعاد هذه المهمة الجليلة وأن يكون فوق الانقسامات الطائفية والحزبية)، وتحديد صلاحيات الوزراء حتّى لا يكونوا حكومات ذاتية داخل الحكومة وبخاصة أنّهم يعملون وفق توجيهات أحزابهم التي جاءت بهم لا بتوجيهات رئيس الحكومة، فهؤلاء ليسوا فريقه، وهو ليس رئيسهم فعلاً. والأهم من ذلك، إيضاح مبدأ الميثاقية أو ميثاق العيش المشترك، الذي تحوّل مع الوقت إلى عائق للدولة كلها، فكيف يتّسق هذا المبدأ مع المساواة القانونية المطلقة بين كلّ المواطنين، واعتماد الكفاية والاختصاص في الوظائف الحكومية؟
لا اتفاق الطائف مقدّس، ولا الدستور. بل لا اعتبار لأيّ قانون. وهو ما يضرب ركناً أساسياً من أركان الدولة. وتقع المسؤولية وفق الدستور نفسه على حامي الدستور وراعي مؤسسات الدولة، على رئيس الجمهورية
ما العمل بإزاء هذه الثغرات، التي تركها عمداً النواب المجتمعون في مدينة الطائف عام 1989، كي يتجنّبوا الخلاف في صياغة التعديلات التي أنهت الحرب الأهلية عملياً؟
قبل هذا السؤال، يُطرح تساؤل أهم: هل ثمة توافق وطني على القضايا الأساسية للدولة قبل الولوج إلى عملية تأسيسية أخرى من دون أيّ رعاية عربية أو دولية، كما حدث في الطائف؟ ماذا يتوقع الطامحون إلى نظام جديد وهم مختلفون في كلّ الأمور، من أعظمها إلى أتفهها؟ هل المطلوب من النظام الجديد أن يستعيد الصلاحيات الدستورية المنتزَعة من رئيس الجمهورية؟ وهل هو تكرار لتجربة قانون الانتخابات، أي قانون باسيل، فيكون الدستور الجديد هو دستور باسيل؟ ومن سلب صلاحيات رئيس الجمهورية، ولمن؟
بقراءة تفصيلية لنصوص الدستور القديم لعام 1926، وتعديلاته عام 1990، يتبيّن ما يلي:
– تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية بإزاء رئيس الحكومة، الذي أصبح رئيس مجلس الوزراء، لم يكن سوى من باب تثبيت العرف الدستوري في نصوص مكتوبة. فلم يكن رئيس الجمهورية منذ الاستقلال، يتجاوز مقام رئيس الحكومة، إلا في حالات محدودة يكون فيها رئيس الحكومة غير ذي تمثيل في طائفته، أو تابعاً لرئيس الجمهورية، مجرّد “باش كاتب”. ومن الشائع تغيير الحكومات بسرعة بسبب التنازع الدائم على السياسات والصلاحيات. كانت المشكلة وجود رؤساء حكومة أقوياء. كما كانت الموازين والحساسيات الطائفية عائقاً أمام رئيس الجمهورية اللبنانية ليكون مثل نظيره في الجمهورية الفرنسية وفق دستور جمهوريتها الثالثة. في المقابل، أُنيط برئيس الجمهورية في اتفاق الطائف أن يكون رمز البلاد وحامي الدستور. وهذا أمر سهل تحقيقه، إن كان لرئيس الجمهورية مؤهلات كافية، من الإخلاص للدستور الذي أقسم اليمين للحفاظ عليه، وهو الوحيد الذي يُقسم اليمين من بين موظفي الدولة، والترفّع عن المصالح الشخصية والحزبية والعصبوية والطائفية، ومراعاة مصالح الشعب في قراراته، وتسهيل عمل المؤسسات وفق مواد الدستور ونصوص القوانين المرعية الإجراء.
– وبالنسبة لرئيس الحكومة بعد اتفاق الطائف، لم يأخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية لنفسه حصراً. بعبارة أخرى، هو لم يسلب تلك الصلاحيات. بل تعزّزت أكثر حيثيته المعنوية والرسمية من جهة، وبات خاضعاً للقيود والضغوط من كلّ الاتجاهات من جهة أخرى. لكن حتّى لو كان هو من يشكّل الحكومة بعد استشارات نيابية غير ملزمة إلا أنه يحتاج لتوقيع رئيس الجمهورية على تشكيلته. رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يمثّلها ويتكلّم باسمها، ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. يدعو إلى عقد الجلسات، ويضع جدول الأعمال، ويُطلع رئيس الجمهورية عليه. لكن الدستور المعدَّل، أناط السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء مجتمعاً، لا بشخص رئيسه. وهو ما جعل تشكيل الحكومات منذ الطائف، ساحة تجاذبات كبرى، فالسلطة الحقيقية ههنا، والأحزاب تتناحر فيما بينها للحصول على حصص، وعلى نوعية معيّنة من الوزارات، سواء أكانت سيادية أو خدماتية.
فلو كان رئيس الحكومة حاكماً بأمره، بصفته ممثّلاً للسُنة في النظام، لكان شكّل فريقه الخاص كلّ مرة، بل هو يجاهد ليحصل على حصص وعلى وزارات معيّنة، مثله في ذلك كمثل سائر الكتل النيابية، وهو يضطر لتقديم التنازلات لتشكيل حكومته. وجاء اتفاق الدوحة عام 2008، ليزيد وضع رئيس الحكومة سوءاً. فقد أجبر اجتياح قوى 8 آذار لبيروت في 7 أيار من ذلك العام، أصحاب الأكثرية النيابية، على تقديم تنازلين جوهريين هما: تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية في إضعاف مباشر للكتلة النيابية لسعد الحريري آنذاك، وإعطاء الثلث المعطّل للحكومة ضمناً لمعسكر 8 آذار، مقابل التزامين أساسيين هما: حظر اللجوء إلى استخدام السلاح أو العنف أو الاحتكام إليه في ما قد يطرأ من خلافات أياً كانت هذه الخلافات، وتطبيق القانون واحترام سيادة الدولة في كافة المناطق اللبنانية بحيث لا تكون هناك مناطق يلوذ إليها الفارّون من وجه العدالة. ما بقي من الاتفاق المذكور، هو الهيمنة على مجلس الوزراء وعلى رئيسه الذي صار الحلقة الأضعف في النظام، والأقل استقراراً.
لو كان رئيس الحكومة حاكماً بأمره، بصفته ممثّلاً للسُنة في النظام، لكان شكّل فريقه الخاص كلّ مرة، بل هو يجاهد ليحصل على حصص وعلى وزارات معيّنة، مثله في ذلك كمثل سائر الكتل النيابية
– أما مجلس النواب، فحصته هي الأكبر من التعديلات الدستورية، إذ بات البرلمان محصّناً من قرار رئيس الجمهورية حلّه في أيّ وقت بموافقة رئيس الحكومة، وبات قرار الحلّ مقيّداً بقرار مجلس الوزراء، وأن يكون قرار الحلّ ذا علاقة بتأخير إقرار الموازنة بهدف شلّ أعمال الحكومة، أي بما هو صلب عمل البرلمان. فقرار حلّ البرلمان، هو أخيراً، له علاقة بعمل المؤسسة التشريعية، باعتبار أنّ رئيس الجمهورية هو الساهر على حُسن عمل مؤسسات الدولة، وعلى التوازن فيما بينها، كما على فصل السلطات، ما بين البرلمان والحكومة. وفيما يتعلّق بتسمية الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة الجديدة، باتت الاستشارات النيابية الملزمة التي يقوم بها رئيس الجمهورية، هي التعبير الملطّف عن تسمية البرلمان مباشرة لرئيس الحكومة، ويصبح رئيس الجمهورية ملزماً بهذا الاختيار، بينما كان الدستور القديم لا يقيّد رئيس الجمهورية بتسميته الرئيس المكلّف. وهو الذي يتولى تفسير مواد الدستور، لا المجلس الدستوري الذي يكتفي بمراقبة دستورية القوانين، والبحث في الطعون الانتخابية.
أما في مجال المحاسبة، فيبدو رئيس مجلس الوزراء، الأكثر عُرضة للتغيير، مع تحميله عواقب السياسات الحكومية، مع أنّ الديمقراطية التوافقية بمجملها، تجعل من المتعذّر تحميل المسؤولية لشخص رئيس الحكومة حصراً، لأن السلطات متداخلة: البرلمان داخل الحكومة من خلال النواب الممثّلين لكتلهم والذين يملكون الأكثرية غالباً ويقاومون تشكيل حكومة غير سياسية، ورئيس الجمهورية داخل الحكومة من خلال النواب الذين يصوّتون مكانه، فضلاً عن ممثّلي حزبه. يمكن إسقاط الحكومة، بنزع الثقة البرلمانية عنها، أو باستقالة أكثر من ثلثها، وهي محاسبة نيابية في الصميم. ويمكن أن يخضع رؤساء الحكومة والوزراء، إلى المحاكمة أمام المجلس الأعلى المكوّن من سبعة نواب وثمانية قضاة، بتهمة الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، وهي محاسبة قضائية ونيابية. فيما أمام رئيس مجلس النواب، بعد أول سنتين من ولايته، استحقاق محتمل، وهو نزع الثقة عنه، من أكثرية الثلثين، وهذا الأمر لم يحصل ولا مرّة واحدة، لأنّ هذا المنصب يحصّن نفسه بنفسه، من خلال قوانين الانتخاب المتتابعة، والتوازنات السياسية وغير السياسية.
لا يوجد في الدستور الحالي، ما يسمّى “إجراءات عزل الرئيس”، وهو موجود في دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا
أما رئيس الجمهورية، وبحسب نصّ المادة 60 من الدستور، فلا تبعة عليه حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى. وعليه، فإنّ المسؤولية العظمى للرئيس هي حفاظه على الدستور، روحاً ونصاً. وخرق هذا الدستور بتجاهل نصوصه، وتجاوز صلاحياته المنصوص عليها فيه، وتعطيل المؤسسات، لا سيما تعطيل تشكيل السلطة التنفيذية في أصعب أحوال البلاد، وأسوئها على الإطلاق، من انهيار مالي واقتصادي واجتماعي، هو ما يوازي الخيانة العظمى تماماً.
إقرأ أيضاً: معادلة عون الثابتة: أعطوني الرئاسة وخذوا لبنان
لا يوجد في الدستور الحالي، ما يسمّى “إجراءات عزل الرئيس”، وهو موجود في دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا. فقد باتت المادة 68 من الدستور الفرنسي تُعنى بعزل الرئيس في المحكمة العليا إذا ظهر خلل في أدائه المهمات المتوقعة منه خلال ولايته، فيما كان الأمر في دستور الجمهورية الثالثة، يتعلّق باتهامه بالخيانة العظمى.
والدستور اللبناني الحالي حتّى بعد تعديلاته، ما زال يستوحي دستور الجمهورية الثالثة الفرنسية. وإذا كان لا يحاسب رئيس الجمهورية على أفعاله المناقضة لمقتضيات المنصب، لكنّه مع ذلك، يحاسب على خرق هذا الدستور الذي أقسم الرئيس على الحفاظ عليه، وهو الدستور الذي انبثق معدّلاً بعد مخاض طويل استغرق قرابة نصف قرن.