يبدو أنّ سعر صرف الدولار في “السوق السوداء” بات يرتفع ويهبط على وقع عدّاد الإصابات بفيروس كورونا. إذ سجل في اليومين الماضيين رقماً قياسياً جديداً لم يرَه اللبنانيون منذ شهر تموز الفائت، بعدما بلغ حدود 8800 ليرة للشراء و9000 ليرة لبنانية للمبيع يوم الثلاثاء.
عوامل عدّة لعبت دوراً كبيراً في هذا الارتفاع، الذي يواصل تسلّقه بمعدل 100 ليرة يومياً منذ الأسبوع الأول من السنة الجديدة، قاصداً على ما يبدو عتبة الـ10 آلاف ليرة لبنانية في مدّة ليست بعيدة، قد تسبق منتصف شباط المقبل.
1 – ارتفاع عدّاد كورونا: أولى هذه العوامل كان الهلع المحقّ، الذي أصاب الناس بفعل ارتفاع عدّاد الإصابات بفيروس كورونا الذي لامس 5 آلاف إصابة يومياً، وترافق مع تجاذب بين توصيات المجلس الأعلى للدفاع واللجنة الوزارية وبين قرار حكومة تصريف الأعمال الذي قضى بإقفال البلاد إقفالاً تاماً مع حظر تجوّل، من 14 إلى 25 كانون الثاني الجاري.
فما إن صدر قرار الإقفال، حتى تهافت الناس على المتاجر والأفران ومحطات الوقود، مخلّفين وراءهم محالاً خاوية ورفوفاً فارغة أينما حلّوا، وقد شكّلت هذه المشهدية ضغطاً إضافياً متنامياً على طلب الدولار لدى الصرّافين منذ منتصف الأسبوع الفائت، لتلبية الإقبال المتزايد على شراء السلع.
2 – الخوف من ارتفاع سعر الصرف: مصدر صيرفي أكّد لـ”أساس” أنّ الأيام الأخيرة سجّلت طلباً كثيفاً على الدولار لم يلحظه الصرافون منذ مدة طويلة، كاشفاً أنّ نوعية الناس التي تنكبّ على شراء الدولارات “لا تنحصر بالتجّار والمستوردين” فحسب، وإنّما تتعداهم إلى الناس العاديين الذين يلوذون بليراتهم لشراء الدولار تحسّباً من خسارات متوقعة، وذلك بعد الأقاويل التي سيقت في حينه وتستمرّ اليوم بالانتشار مثل النار في الهشيم، عن أنّ سعر الدولار سيشهد ارتفاعات دراماتيكية بدايات 2021، وعن أنّه قد يسجّل أرقاماً لم يشهدها من قبل مثل 20 أو 30 ألفاً، في حال رفع الدعم عن المواد الغذائية والحيوية والمحروقات.
3 – إعلان رياض سلامة عن تعويم الليرة: التطوّرات أعلاه “نفخ في نارها” كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول تعويم سعر الصرف. تصريح سلامة لوكالة “فرنس 24” قبل أسبوع زاد في منسوب الهلع في النفوس، وخصوصاً لدى اكثرية الناس التي اعتبرت أنّ التعويم سيؤدي حكماً إلى ارتفاع سعر الصرف إلى أرقام مخيفة، مع العلم أنّ العكس هو الصحيح شرط أن يترافق مع خطة يوافق عليها صندوق النقد الدولي وتتولى تطبيقها واتخاذ قراراتها الحكومة المنتظرة، وليس مصرف لبنان منفرداً.
هذا الجو النفسي لدى المواطنين وخصوصاً لدى المودعين “خلق إقبالاً كبيراً” على الليرة في المصارف التي كما هو معروف، تضع سقوفاً محدّدة للسحوبات من الأرصدة بالليرة اللبنانية، إن كانت من حسابات الدولار أو من حسابات اللبناني.
ما إن صدر قرار الإقفال، حتى تهافت الناس على المتاجر والأفران ومحطات الوقود، مخلّفين وراءهم محالاً خاوية ورفوفاً فارغة أينما حلّوا، وقد شكّلت هذه المشهدية ضغطاً إضافياً متنامياً على طلب الدولار لدى الصرّافين منذ منتصف الأسبوع الفائت، لتلبية الإقبال المتزايد على شراء السلع
فبحسب المصدر، فإنّ “التهافت على السحوبات دفع بالعملاء صوب قبولهم بسحب أموالهم، بأقلّ من قيمتها، المصرفية، من أجل الحصول على ليرات كاش سريعاً وبلا انتظار، قبل “الارتفاع الكبير” بسعر الصرف، أي بخسارة جزء من المبلغ المسحوب تحت بند “بدل خدمات” أو “عمولة” أو… أو.
المصدر كشف أنّ أكثر هؤلاء الناس هم من فئة المودعين بالليرة اللبنانية لدى المصارف. فالمودعون عمدوا منذ نهاية سنة 2020 إلى سحب دولاراتهم على سعر 3900 ليرة وشراء الدولارات من صرافي “السوق السوداء” بأيّ سعر كان.
4 – شيكات “البيرة”: طريقة أخرى أخذ يلجأ إليها “المتهافتون” على الليرة منذ مدّة وتلقى الرواج كثيراً. وهي في البحث عن زبائن لشيكات يصدرونها بالليرة اللبنانية من حساباتهم ويتلقّون مقابلها ليرات كاش، تماماً مثلما كان (ولا يزال) يحصل مع شيكات الدولار، أو “اللولار” (الدولار المصرفي اللبناني المحجوز Lebanese Dollar). ويمكن القول إنّ الحاجة إلى الليرة خلقت ما قد يُصطلح على تسميته اليوم بـ”البيرة” أو “الليرة البنكية” التي تُقدّر اليوم بين 93 و95% من قيمة الليرة (93 إلى 95 ألف ليرة لكلّ 100 ألف بيرة في شيك مصرفي).
هذه الشيكات تُباع مثل السلع التجارية وبأقل من قيمتها الفعلية بين 7 و 5%. يستخدمها الشاري في سداد الديون لدى المصارف أو يدفعها للتجّار. أما صاحب الحساب فيشتري بقيمة ما تلقّاه من ليرات لقاء الشيك الذي أصدره، دولارات كاش من الصرّاف، وهذا تحديداً ما يساهم برفع سعر الصرف اليوم.
صراف في العاصمة بيروت من “الفئة ب” قال لـ”أساس” إنّ السوق في اليومين المنصرمين شهد طلباً على الدولار من زبائن أسرّوا له أنّ “بقاء ليراتهم في المصارف، أكانت من حسابات لولار أو لبناني، بات مخاطرة كبيرة”، لأنّ الحديث عن ارتفاع الدولار سيفقدها المزيد من قيمتها، ولهذا باتوا يفضّلون خسارة جزء منها، إن في عملية السحب أو في عملية بيع الشيك، من أجل “الحفاظ على ما تبقى منها ومن قدرتها الشرائية”.
يمكن القول إنّ الحاجة إلى الليرة خلقت ما قد يُصطلح على تسميته اليوم بـ”البيرة” أو “الليرة البنكية” التي تُقدّر اليوم بين 93 و95% من قيمة الليرة (93 إلى 95 ألف ليرة لكلّ 100 ألف بيرة في شيك مصرفي)
5 – تأخّر الحكومة: تعثّر تشكيل الحكومة، خصوصاً بعد تسريب فيديو من قصر بعبدا قبل أيام، وفيه يتّهم رئيس الجمهورية الرئيس المكلف سعد الحريري بالكذب. هذا التسريب “فرمل” الآمال بقرب تشكيل الحكومة وأعادها إلى مربعها الأول، كما أحيا الحديث عن اعتذار الحريري أو التشبّث بتكليفه بلا تأليف… وفي الحالتين فإنّ هذا لا يُبشر بالخير على صعيد سعر الصرف.
المصادر تعتبر أنّ “استغلال الأزمات السياسية للتأثير في السوق وسعر الصرف بات أكثر رواجاً اليوم وأكثر رجاحة من آلية العرض والطلب التي لا تعكسها حركة السوق على أرض الواقع”، مستدّلة إلى ذلك من خلال العودة بشريط الأحداث إلى مرحلة تكليف الحريري، التي شهدت هبوطاً بسعر الصرف في حينه بلغ حدود 6500 ليرة في 24 تشرين الأوّل الفائت.
إقرأ أيضاً: دولار 2020: سيرة كاملة عن مسار تصاعدي لن يتوقّف
مصادر مصرفية تعتبر أنّ “هبوط الدولار بحدود 2000 ليرة يومها، كان أكبر من الحدث السياسي نفسه ودليل على أنّ التطوّرات السياسية يجري توظيفها لخلق أجواء مالية، وليس العكس”، كاشفة عن توجّه كان يُعِدّ له مصرف لبنان يقضي بـ”خنق الوفرة في الليرة اللبنانية” عشية تشكيل حكومة الحريري، بهدف “خلق طلب مصطنع عليها”، يؤدي إلى تخفيض سعر صرف الدولار ويعطي الانطباعات المطلوبة عن بداية مرحلة سياسية جديدة مستقرة نقدياً وعنوانها: “تحالف الحكومة مع المركزي”. لكن يبدو أنّ انتظار ذلك سيطول، وإلى حينه، فإنّ التهديد بـ”جنون الدولار في أي لحظة” سيبقى سيفاً مصلّتاً على أعناق ليراتنا.