سواء قصد ذلك أم لا فقد أضاء الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله باكراً جدّاً في مطلع العام الجديد على جوهر الأزمة اللبنانية والمتمثّل بمكابرة “المقاومة” على الانقسام العمودي داخل المجتمع حولها. تلك “المقاومة” التي قال نصرالله نفسه في الذكرى السنوية العشرين لانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان إنّ لا إجماع لبنانياً حولها.
لكنّه عندما يتحدّث عن “المقاومة” فهو يجرّدها تجريداً مطلقاً كما لو أنّها بلا أي صلة بمنظومة حزب الله السياسيّة والأمنية والعسكرية، المرتبطة ارتباطاً عضوياً بدولة أجنبية هي إيران، بينما الانقسام العميق والصّحي في المجتمع حول “المقاومة” هو حول هذه النقطة بالذات، أي حول “الصلة الرحمية” بين حزب الله وإيران، تلك الصلة التي تجعل “المقاومة” جزءاً من مشروع انقسامي سياسي وعسكري إقليمي واجتماعي أيضاً.
إذاً فقد ذكّر نصرالله في خطابه بالتحدّي الأساسي أمام الدولة والمجتمع اللبنانيين، ألا وهو تجاوز أو معالجة التناقض بين الدولة والمجتمع، وبين “المقاومة”، بوصفه تناقضاً بات يهدّد الدولة والمجتمع في وجودهما. ذلك لأنّ الشرط الأساسي لوجود الدولة هو احتكارها العنف الشرعي، بحسب تعريف ماكس فيبر، أو امتلاكها قرار الحرب والسلم وفق الأدبيات السياسية الدولة. فأين الدولة اللبنانية من هذا الشرط في وقت يمتلك حزب فيها منظومة صاورخية هي جزء من منظومة صاروخية لدولة إقليمية، وذلك باعتراف الحزب والدولة هذين. وكلام قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني علي حاجي زادة أخيراً ليس الأوّل ولن يكون الأخير في هذا الصدد.
ذكّر نصرالله في خطابه بالتحدّي الأساسي أمام الدولة والمجتمع اللبنانيين، ألا وهو تجاوز أو معالجة التناقض بين الدولة والمجتمع، وبين “المقاومة”، بوصفه تناقضاً بات يهدّد الدولة والمجتمع في وجودهما
أمّا المجتمع الذي مثّل تاريخياً مجموعة تقاطعات مصلحية وقيمية بين اللبنانيين، على الرغم من تناقضاته الداخلية التاريخية، فيبدو اليوم على شفير التفكّك النهائي. إذ أنّه في عزّ الانهيار الذي يفترض أن يعيد توحيد الفئات الاجتماعية والأفراد حول مصالحهم، يعزّز حزب الله تمايز “مجتمعه” عن سائر المجتمع اللبناني، لا قيمياً وحسب لناحية الفرز الأخلاقوي بين مؤيدي “المقاومة” ومعارضيها، بل مصلحياً أيضاً لناحية تأسيسه نظام خدمات مستقلاً عن الدولة يؤّمن مصالح المستفيدين منه بخلاف سائر اللبنانيين.
والحال هذه أي دولة ومجتمع ما زالا ممكنا الوجود في لبنان في وقت يطلّ أمين عام لحزب لبناني في خطاب لمناسبة ذكرى مقتل قائد عسكري لدولة أجنبية فيتحدّث عن قوّة هذه الدولة كما لو أنّه أحد مسؤوليها الرسميين؟
ليس هذا وحسب بل يعتبر أنّه “إذا كان لبنان قوياً وإذا كان أحد يسأل عنه ويشعر أنّ له وجود على الخريطة فبسبب هذه المقاومة وهذه الصواريخ”. وبذلك فهو يجعل عنصر الانقسام الأساسي حول “المقاومة”، أي الصواريخ، قيمة تفاضلية للبنان، إذ لولاها لا وجود له على الخريطة. وهذا أخذٌ للتحدّي من قبله إلى آخره، وهو تحدّ يتجاوز اللعبة السياسية ليصبح موجّهاً إلى المجتمع نفسه الذي يلغيه نصرالله، لمجرّد ربطه وجوده بصواريخ حزبه، ويتجاهل كلّ تاريخه.
كلّ ذلك يخالف موضوعياً أدبيات الحزب عن سعيه لـ”وحدة لبنان واللبنانيين”، لاسيّما أنّ إطلالة الأمين العام لحزب الله، ظهّرت، في توقيتها ومضمونها، اختلاف أولويات الحزب التي تندرج ضمن الأولويات الاستراتيجية الإيرانية لمواجهة أميركا وتحسين شروط المفاوضات معها، عن أولويات عموم اللبنانيين الذين يواجهون تبعات الانهيار المالي والانتشار الكثيف لفيروس كورونا في ظل تخبّط الدولة وعجزها عن إدارة الأزمة الصحية.
ليس قليل الدلالة في هذا السياق تأجيل نصرالله الحديث عن الموضوع اللبناني أيّاماً عدّة، ربّما بانتظار صدور نتائج الانتخابات المعادة على مقعدين في مجلس الشيوخ الأميركي في ولاية جورجيا، لما لهذه النتائج من تأثير على بداية ولاية جو بايدن الذي تأمل طهران أن يعيد واشنطن إلى الالتزام بالاتفاق النووي الذي أخرجها منه دونالد ترامب.
أيّا يكن من أمر فإنّ تأجيل الرجل التطرّق إلى الملف اللبناني، في وقت يمرّ لبنان بأحلك أوقاته، يؤكّد مقدار “إقليمية” حزب الله في مقابل “لبنانيته”. بمعنى أنّ أولويات الحزب الإقليمية تتقدّم أولوياته اللبنانية، أو أنّ أولوياته اللبنانية تحدّدها أولوياته الإقليمية، وليس العكس. وهذا الاختلاف الكبير في الأولويات بين الحزب وبين اللبنانيين الذين تجمعهم مصلحة كبح الانهيار المالي وتوفير الأمان الصحي، ينقل الاصطفاف في البلد من “بين الحزب ومعارضيه” إلى “بين الحزب واللبنانيين”.
من البديهي أن تنتقل الأولوية السياسية الوطنية من المطالبة بتشكيل الحكومة إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية بصفته، بحكم موازين القوى ومسؤوليته الدستورية في تشكيل الحكومة، رأس الجماعة السياسيّة المتّهمة بالعداء لشعبها لتأخيرها تأليف حكومة يأخذ تأليفها صفة الضرورة الوطنية
كلّ ذلك يمكن معاينته مليّا في موضوع تشكيل الحكومة، إذ وعلى الرغم من الصفة الملّحة لتأليف الحكومة، إلا أنّ الائتلاف الحاكم، أي حزب الله والعهد، لا يزال يؤخّر تأليفها… الحزب لكي تأتي الحكومة كملف جزئي في إطار أي مفاوضات مستقبلية بين واشنطن وطهران، والعهد لنيل حصّة حكومية تعوّض الوهن المهين الذي بلغه، خصوصاً بعد العقوبات على النائب جبران باسيل، وفي حساباته تحسين شروط معركة الأخير الرئاسية في 2020. وكلاهما، أي الحزب والعهد، لن يفرجا عن حكومة لا يحوزان فيها بصورة من الصور على الثلث المعطّل. ولذلك سيكون من الوهم توقّع خلاف بين التيار الوطني الحر وبين حزب الله والاستدلال عليه بردود العهد والتيار على تصريحات حاجي زاده. إذ أنّ توافقهما أو خلافهما تحدّده الآن كيفية تعاملهما مع ملف تشكيل الحكومة، وهما حتّى الساعة متوافقان بل متضامنان فيه.
هذا يحيلنا مرّة جديدة إلى كلام البطريرك بشارة الراعي عن أنّ “الجماعة السياسية (التي تؤخّر تشكيل الحكومة) تتولّى إدارة دولة عدوّة وشعب عدوّ”. أي أنّ هذه الجماعة السياسية بمثابة جماعة تحتلّ لبنان أو تمثّل مصالح دولة تحتلّه، وإلّا كيف تكون عدوّة لشعبها إن لم تكن من “غير” شعبها؟ أي أنّ أولوياتها غير أولوياته ومصالحها غير مصالحه، وهو ما أشار إليه أيضاً البابا فرنسيس في رسالته الميلادية إلى اللبنانيين عندما تحدّث عن عدم جواز تقديم المسؤولين مصالحهم على مصالح شعبهم.
أمام واقع كهذا يأخذ السؤال عن جدوى الاستمرار في المطالبة بتشكيل الحكومة كامل شرعيته ما دام التأخير في تأليفها كل هذا الوقت يعني أنّه لا إمكان لتأليفها إلّا عندما يلبّي هذا التأليف في توقيته ومضمونه مصلحة الائتلاف الحاكم، ولا سيّما طرفه الأقوى حزب الله. أيّ أنّ الحكومة المنتظرة ستكون، وأيّاً كانت طبيعتها، حكومة فئوية تمثّل، بحكم موازين القوى الحالية، الجماعة السياسيّة “العدوّة للدولة والشعب”. والحال هذه يصبح من البديهي أن تنتقل الأولوية السياسية الوطنية من المطالبة بتشكيل الحكومة إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية بصفته، بحكم موازين القوى ومسؤوليته الدستورية في تشكيل الحكومة، رأس الجماعة السياسيّة المتّهمة بالعداء لشعبها لتأخيرها تأليف حكومة يأخذ تأليفها صفة الضرورة الوطنية.
إقرأ أيضاً: 2005 – 2021: التاريخ يعيد نفسه… والاغتيال أيضاً؟
والأدهى أنّ وجوده في منصبه هو كحليف سياسي لحزب الله يمارس بنظر شرائح إجتماعية آخذة في الاتساع ممارسات احتلالية في الداخل اللبناني. ومنها أخيراً نشر صور قيادات إيرانية على طريق المطار التي تعدّ إحدى واجهات لبنان للخارج والمفاخرة بامتلاك منظومة سلاحية إيرانية المصدر وبالتالي إيرانية الإمرة. ما يشكّل بالنسبة لتلك الشرائح غطاءً شرعياً لهذه الممارسات فقط من خلال وجود عون في منصبه. وبالتالي فإنّ استقالته أوّل الطريق نحو “فكّ أسر الشرعية”، كما كان قد دعاه البطريرك الراعي في ندائه الشهير في 5 تموز الماضي!