لا شكّ أنّ ما شهده مبنى الكابتول “الكونغرس” في العاصمة الأميركية واشنطن، قد هزّ صورة الولايات المتحدة، وتردّد صداه في كلّ أنحاء العالم وفي المحافل السياسية الدولية، إلا أنّ الصدى الأكبر لهذا الحدث كان في العاصمة الإيرانية طهران. فقد وفّر لها من جهة المسوّغ للهجوم على كل الإدارات الأمريكية التي تطالبها بالتزام الممارسات الديقراطية، والابتعاد عن العنف في التعامل مع المطالب الشعبية السياسية والمعيشية، وبالتالي أعطى النظام ورقة لإسكات الأصوات الداخلية المعارضة التي يتهمها بتنفيذ أجندة أمريكية لإضعاف النظام أو الإنقلاب عليه. ومن جهة أخرى سمحت التطورات السياسية التي تلت هذا الحدث والجهود التي بذلتها الدولة العميقة في أميركا لاستيعاب تداعيات ما جرى، سمحت هذه الجهود لإيران والنظام فيها بتنفس الصعداء بخروجه من دائرة الخطر نتيجة ارتفاع منسوب التوتر الذي رافق خطوات عسكرية اتّخذتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب وحملت تهديداً بإمكانية شنّ حرب عسكرية أو توجيه ضربة لبعض المواقع والمنشآت الاستراتيجية الإيرانية في الداخل أو في مناطق نفوذها الإقليمية.
بناءً على هذا، يمكن القول إنّ النظام الإيراني يُعتبر المستفيد الأوّل من أحداث مبنى الكابتول، لأنّها حسمت حالة الانتظار وما تبقى من أيام لترامب في الرئاسة لصالح الرئيس المنتخب، وشكلت إعلاناً رسمياً ببدء ولاية الرئيس الجديد قبل حفل التنصيب الرسمي وأداء اليمين الدستورية. وبالتالي نحن أمام الانتقال إلى مرحلة العمل بجدية على ترتيب أوراق إيران التفاوضية من دون الحاجة إلى انتظار موعد العشرين من الشهر الجاري. بحسب ما دعا مساعد الرئيس الإيراني القوى السياسية الداخلية للتخفيف من حالة التوتر والتعامل مع المتغير الأمريكي وما يمكن أن يحمله من تطورات قد تكون إيجابية على الصعيدين السياسي والاقتصادي لإيران.
النظام الإيراني يُعتبر المستفيد الأوّل من أحداث مبنى الكابتول، لأنّها حسمت حالة الانتظار وما تبقى من أيام لترامب في الرئاسة لصالح الرئيس المنتخب، وشكلت إعلاناً رسمياً ببدء ولاية الرئيس الجديد قبل حفل التنصيب الرسمي وأداء اليمين الدستورية
الحكومة الإيرانية برئاسة حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف الذي يتولى مسؤولية التفاوض مع واشنطن والمجتمع الدولي، كرّسا منذ إعلان ترمب الانسحاب من الإتفاق النووي معادلة أساسية وواضحة تقوم على استعداد إيران للعودة إلى تنفيذ تعهداتها والتراجع عن الخطوات التي اتخذتها بتقليص التزاماتها النووية مقابل عودة واشنطن إلى الإتفاق النووي من دون شروط مسبقة.
وأمام المواقف الأولية التي صدرت عن الرئيس الجديد وفريقه المقترح لتولي إدارة السياسة الخارجية والأمن القومي، رفضت إيران أي ضغوط لتعديل الإتفاق أو شروط البحث في البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي أو رفع عدد الدول المشاركة في مجموعة 5+1 لتضم دولا إقليمية من الجوار الإيراني خصوصا العربية منها. واعتبرت أي تعديل في مضمون الإتفاق الموقع عام 2015 يعني الإنتقال إلى تفاوض جديد على اتفاق مختلف، وهو أمر لا يساعد على جهود خفض التوتر والعودة إلى السياقات الإيجابية التي أنتجتها مفاوضات جنيف قبل خمس سنوات.
روحاني كان حاول تجاوز الشروط التي سبق أن وضع إطارها المرشد الأعلى للنظام كمقدمة لأي تفاوض مع واشنطن. شروط تطالب الولايات المتحدة بان تدفع تعويضاً عن الأضرار التي لحقت بإيران ونظامها جراء أربعة عقود من العقوبات. وقد اعتبر روحانيأنّ هذا الشرط يؤدي إلى “إشعال حرب عالمية”. إلا أنّ العودة إلى الإتفاق الموقع والتطبيق العملي له قد تبدو متعارضة مع مصالح النظام الإيراني، خصوصاً أنّ رئاسة ترامب والعقوبات التي فرضها أظهرت نقاط ضعف طهران التي استطاعت واشنطن أن تنفذ منها وتستخدمها لتفرض حصاراً غير مسبوق أوصل الدولة والنظام إلى حافة الانهيار. إلى درجة العجز عن تأمين أموال لشراء لقاحات مكافحة انتشار جائحة كورونا. ودفعت وزير الخارجية ظريف للقول أواخر عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما إنّ بلاده عاجزة عن فتح حساب في أي من البنوك الغربية.
طهران ترى أنّ المتغيرات الجيوسياسية وفشل ترامب بفرض تنازل على النظام، يعطيها دافعاً من أجل إدخال تعديلات على آليات تطبيق الإتفاق ورفع مستوى المنافع
العيوب التي ظهرت في تطبيق الإتفاق النووي الموقع بين إيران وإدارة أوباما، قد تدفع طهران، وستدفعها، إلى المطالبة بإعادة النظر في الإجراءات التنفيذية لهذا الإتفاق، خصوصا ما يتعلق بالجانب المالي والتعاون الاقتصادي وقطاعي الطاقة والصناعة. وعليه فإنّ الجدل الداخلي الإيراني يدور حول ضرورة إدخال تعديلات على آليات تنفيذ الإتفاق وليس مجرد العودة إليه من جانب واشنطن. أي بما يضمن إبعاد شبه الرعب من العقوبات عن رأس الشركات الدولية التي تسعى للاستثمار في إيران فضلا عن تكريس آليات عودة إيران إلى النظام المالي الدولي وتسهيل عمليات انتقال ونقل الأموال وفتح الاعتمادات والحصول على عائدات النفط والغاز والمشتقات النفطية التي تصدرها إلى الأسواق العالمية.
ولعل أهم ما تطالب به طهران هو إلغاء كل القرارات التنفيذية التي أصدرها ترامب وتلك الصادرة عن الكونغرس (قانون CAATSA، والقرار التنفيذي رقم 13846 ضد البنك المركزي، والقرار التنفيذي رقم 13871 ضد صادرات المعادن والمعاملات البنكية، والقرار التنفيذي رقم 13876 بالعقوبات ضد المرشد وظريف، والقرار التنفيذي رقم 13902 ضد قطاعات الاقتصاد الإيراني)، فضلاً عن القرار التنفيذي الذي أصدره أوباما في تشرين ثاني عام 2015، أي بعد توقيع الإتفاق والذي قيد شروط إصدار التأشيرات الأمريكية للإيرانيين أو الذين يزورون إيران من دول أخرى.
يمكن القول إنّ الشروط والأوضاع في عام 2021 تختلف كثيراً عما كانت عليه عام 2015 عند توقيع الإتفاق، وأيّ شروط إيرانية على طريق العودة للالتزام بالإتفاق يفرض عليها القبول بشروط مقابلة قد تضعها الإدارة الأمريكية الجديدة التي أعلنت التزامها العودة إلى هذا الإتفاق وتطبيقه. والمعطيات التي أنتجت إتفاق عام 2015، الأميركية والإيرانية والإقليمية والجيوسياسية، كلّها قد تغيّرت. خصوصاً في حجم التعاون الذي حصل بين واشنطن وطهران حول الملفات الإقليمية، التي تعرضت لانتكاسة واضحة جراء الضغوط الكبيرة التي فرضها ترامب وفريقه.
إقرأ أيضاً: بايدن – إيران: الصواريخ الدقيقة… قبل “النووي”
وإذا ما كانت الإدارة الجديدة تسعى لتوظيف هذه المتغيرات الناتجة عن سياسة الإدارة السابقة لتحسين شروطها في التضييق على إيران والحصول منها على مزيد من التنازلات، فإنّ طهران في المقابل ترى أنّ المتغيرات الجيوسياسية وفشل ترامب بفرض تنازل على النظام، يعطيها دافعاً من أجل إدخال تعديلات على آليات تطبيق الإتفاق ورفع مستوى المنافع. ما يعني أنّ كلا الطرفين بحاجة للجلوس إلى طاولة التفاوض وإعادة فتح ملفات هذا الإتفاق والضغط باتجاه إدخال التعديلات التي تخدم رؤية كل منهما. ما يعني أنّ الكلام عن العودة إلى الإتفاق السابق تبدو من غير معنى إذا ما حصل أي تعديل في أي من آلياته ومفرداته.