بقلم ديفيد بلايت David W. Blight (فورين أفيرز Foreign Affairs)
ملخص القسم الأول:
ما زال الأميركيون يعيشون هواجس الماضي وما فتئت أشباح الانقسام والانفصال تطلّ في كلّ أزمة وطنية على الرغم من مرور ما يقرب من 155 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (بدليل اقتحام الكونغرس أخيراً مع “عَلَم” الاتحاد الكونفدرالي الجنوبي لأول مرة في تاريخ البلاد). والسبب الكامن في اهتزاز الهوية الأميركية حتى اليوم، هو فشل مشروع إعادة البناء بعد الحرب الأهلية، واستعادة الجنوب إلى الولايات المتحدة دون مراجعة حقيقية لأصول الأزمة وأسبابها الفكرية.
خطا الجمهوريون الراديكاليون، الذين كانوا صاعدين في واشنطن في 1866-1868، خطوات ثورية نحو المساواة العرقية من خلال تمرير قانون الحقوق المدنية لعام 1866. وهو أوّل تعريف قانوني لحقوق المواطنة في تاريخ الولايات المتحدة، مع دفع التعديلين الرابع عشر والخامس عشر إلى الأمام.
وقد كرّس التعديل الرابع عشر في الدستور حقّ المواطنة بالولادة، والمساواة أمام القانون، ووسّع التعديل الخامس عشر حقوق التصويت للرجال السود. وسعى الجمهوريون الراديكاليون إلى اجتثاث أسباب التمرّد الجنوبي، وتفكيك قيادته، وإنشاء نظام سياسي جديد. لقد قاموا بصياغة قوانين إعادة البناء الأربعة، التي جرى تمريرها في عامي 1867 و1868، فقُسمت الولايات الكونفدرالية المهزومة إلى خمس مناطق عسكرية، وأُنشئت حكومات جديدة فيها. وكانت النتيجة تجربة في الديمقراطية المتعدّدة الأعراق. واعتنق الرجال السود حق التصويت كفعل مقدّس. وفي عام 1868، كان دعمهم عاملاً حاسماً في فوز المرشح الجمهوري للرئاسة، يوليسيس غرانت Ulysses S. Grant.
انتُخب أكثر من 1500 رجل أسود للمناصب الحكومية والمحلية خلال إعادة البناء في جميع أنحاء الجنوب، وفاز السود بـ16 مقعدًا في الكونغرس الأميركي. ومع استمرار الأنظمة الجمهورية في الجنوب، تعزّزت أولى المدارس العامة في المنطقة، وأُضفي الطابع الديمقراطي على المؤسسات السياسية في ولايات الرقيق السابقة، وحاولت تلك الأنظمة بطرق محدودة إعادة توزيع الممتلكات على العبيد المحرّرين.
جدول الأعمال هذا للجمهوريين الراديكاليين كان على مسار تصادمي مع جونسون، الذي، بعد أن حلّ محلّ لينكولن الشهيد، دفع من أجل رؤية متساهلة لإعادة البناء تقوم على حماية حقوق الولايات، وعلى تفوّق البيض، وعلى نهج غير ثوري بالتأكيد لإعادة تشكيل الاتحاد الاتحادي. وكان شعاره: “الاتحاد كما كان، والدستور كما هو”. ومن الناحية العملية، كان هذا يعني أنّه طالما تخلّت الولايات الكونفدرالية السابقة عن الانفصال، وأنهت العبودية (ولكن على مضض)، فإنّها تستطيع أن تستعيد بسرعة وضعية الدولة الكاملة دون الحاجة إلى منح أيّ حقوق مدنية أو سياسية للعبيد المحرَّرين. لقد تصوّر جونسون نظام ما بعد الحرب، على أنه ينتقل فيه العبيد السابقون إلى أقنان (عبيد) العمل، ولكن لا حياة اقتصادية مستقلّة لهم، ولا مكان لهم في السياسة. قاوم جونسون راديكالية إعادة البناء من خلال استخدام حقّ النقض تقريباً ضدّ كلّ قانون يحاول الجمهوريون تمريره في الكونغرس. لكنّ نجاح الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي لعام 1866 منحهم هيئة تشريعية مانعة لحقّ النقض، فنقضوا معظم الفيتوات التي استعملها جونسون.
كرّس التعديل الرابع عشر في الدستور حقّ المواطنة بالولادة، والمساواة أمام القانون، ووسّع التعديل الخامس عشر حقوق التصويت للرجال السود. وسعى الجمهوريون الراديكاليون إلى اجتثاث أسباب التمرّد الجنوبي، وتفكيك قيادته، وإنشاء نظام سياسي جديد
أدّت عرقلة جونسون المستمرة، والسلوك الشخصي العنيد، والعنصرية الخبيثة إلى محاكمتهimpeachment بهدف عزله في أوائل عام 1868. لكن بسبب مجموعة معقدّة من الصفقات والأصوات، فضلاً عن استخدام الجمهوريين لقانون دستوري مشكوك فيه، لم تتمّ إدانة جونسون ولم يُعزل من منصبه. وبحلول ربيع عام 1868، لم يكن الجمهوريون يريدون أن يُشوّهوا حزبهم بسبب الإقالة (وهو موقف لم يكن يحظَى بشعبية آنذاك، بعد سنوات عديدة من الصراع)، كما أنّهم لم يرغبوا في إلحاق الضرر بفرص غرانت في الانتخابات المقرّرة في الخريف.
التراجع عن إعادة البناء
إنّ إعادة البناء لم تنجح في نهاية المطاف، وهي تثبت فقط أنّ الثورات، حتى تلك التي ترتكز على القانون، تدفع دائماً إلى الثورات المضادة. وبحلول عام 1870، أُعيدت جميع الولايات الكونفدرالية السابقة إلى الاتحاد. ولكن في الجنوب، أحيا الحزب الديمقراطي نفسه من خلال التشبث بأيديولوجية تفوّق البيض، وإذكاء ذكريات الحرب المريرة، ونشر العنف من خلال جماعة كو كلوكس كلان Ku Klux Klanوغيرها من الجماعات الإرهابية. مع مرور الوقت، هزمت هذه القوات الواهية إعادة الإعمار على الأرض. في السبعينيات من القرن التاسع عشر، “استرجع” الجنوبيون البيض ولاياتهم ومجتمعاتهم، خصوصاً سيطرتهم على النظام العنصري. فقد تعرّض آلاف من الأميركيين الأفارقة، فضلاً عن بعض الجمهوريين البيض، للاعتداء أو التعذيب أو القتل، خصوصاً عندما حاولوا التصويت. في عام 1873، أصاب الكساد الاقتصادي البلاد، مما أدّى إلى تراجع وطني عن إعادة البناء. وقد شوّهت كثير من فضائح الفساد إدارة غرانت،مما حدّ من نفوذها. وفي الوقت نفسه، ومع انحسار الحرب، بدأ الحزب الجمهوري في التغيّر، تاركاً وراءه جذوره المساواتية وإلغاء عقوبة الإعدام، وانحاز إلى مصالح الشركات الكبرى والسكك الحديدية. وبحلول أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر، كان الجمهوريون حزب الضرائب المنخفضة والتعريفات الجمركية المرتفعة.
وصاحبت هذه التغيرات السياسية تحوّلات ديمغرافية واقتصادية. وفي أعقاب الحرب، ارتفعت الهجرة. دخل البلاد ثلاثة ملايين مهاجر جديد بين عامي 1865 و1873. وفي الجنوب، عارض البيض بعنف ونجاح الجهود الرامية إلى توزيع الأراضي على العبيد المحرّرين. وبحلول عام 1868، ظهر نظام جديد للزراعة المستأجَرة وزراعة المحاصيل. وفي اقتصاد يعاني من نقص في السيولة النقدية مع القليل من مصادر الائتمان، أصبح الملايين من العبيد السابقين، فضلاً عن بعض البيض الفقراء، غارقين في التبعية، حيث منحوا نصف محصولهم لمالك الأرض واستعملوا النصف الآخر في محاولة لإطعام أسرهم والحصول على السلع من “تجار الأثاث”، الذين عادة ما تجبر ممارساتهم الابتزازية المزارعين على الدخول إلى طريق مسدود من الديون. وبحلول التسعينيات من القرن التاسع عشر، كان ما يقرب من 20% من العبيد السابقين وذريتهم يحوزون بعض الأراضي أو الممتلكات الأخرى، ولكن الغالبية العظمى لم تكن تمتلك أيّ أمل حقيقي في الاستقلال المادي، إذ سُحقت حريتهم السياسية ببطء.
إنّ إعادة البناء لم تنجح في نهاية المطاف، وهي تثبت فقط أنّ الثورات، حتى تلك التي ترتكز على القانون، تدفع دائماً إلى الثورات المضادة. وبحلول عام 1870، أُعيدت جميع الولايات الكونفدرالية السابقة إلى الاتحاد
في الوقت نفسه، بدأ تحالف ناشئ بين الشركات الكبرى والطبقة السياسية في خنق بعض الانتصارات التي حققتها ثورة التحرّر، فصرفت الفضائح المالية انتباه الجمهوريين والبلاد عن قضية المساواة في الحقوق. أصبحت السكك الحديدية، التي بنيت بدعم فدرالي واسع، رمزاً لبزوغ فجر الرأسمالية الصناعية الأميركية. وبحلول نهاية القرن، وللمرّة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، كان عدد العمال في غير قطاع الزراعة يفوق عدد المزارعين، وفاق عددُ العاملين بأجر عددَ الحرفيين المستقلين.
الصراع العرقي والتحوّلات الاقتصادية كانت واضحة في الغرب الأميركي. فقد تركت الحروب الهندية بين عامي 1860 و1890 أثراً من الدماء والعذاب عبر عدد من الأصقاع. فبمعنى من المعاني، لم تنتهِ الحرب الأهلية في عام 1865. ونزع ملكية الشعوب الأميركية الأصلية في جميع أنحاء الغرب نتج عن الغزو الأيكولوجي (البيئي) وكذلك عن غزو الإنسان. لقد اعتمدت مجموعات السكان الأصليين على صيد الجاموس في السهول الكبرى، وعلى تربية الأغنام في الجنوب الغربي، وعلى مصائد سمك السلمون في الشمال الغربي. وبالاستيلاء على الأراضي وتوسيع السكك الحديدية، هدّد المستوطنون البيض سبل العيش الثلاثة. في عام 1820، كان هناك حوالى 25 مليون جاموس على الأراضي الأميركية. في الثمانينات، كان هناك بضع مئات فقط. وقد وضعت واشنطن معاهدات مع القبائل لكنها انتهكتها بشكل روتيني.
إقرأ أيضاً: حرب أهلية باردة في الولايات المتحدة (1/2)
والقيود المفروضة على استيعاب السكان الأصليين كانت واضحة: فقد عرّفتهم قرارات المحكمة العليا في عام 1884 و1886 على أنّهم قاصرون تابعون للدولة، وحرمتهم من الحق في أن يصبحوا مواطنين أميركيين، وبأن يحظوا بجميع أشكال الحماية بموجب التعديلين الرابع عشر والخامس عشر.
واليوم، يعيش الأميركيون في بلد صاغته مرحلة إعادة البناء وأعيد تشكيله مرة أخرى بموجب قانون الحقوق المدنية لعام 1964، وقانون حقوق التصويت لعام 1965، والحركات الاجتماعية العميقة التي أجبرت السلطات على تمرير القانونين. لقد ولدت التعدّدية والمساواة، ووُلدتا من جديد في هاتين الثورتين اللتين وقعتا قبل قرن من الزمان. ولكن أحداث السنوات الأخيرة، خصوصاً في عهد ترامب، تذكّرنا بأنه لا يوجد تغيير دائم بالضرورة، ولا يمكن لأيّ قانون أن يحمي الأميركيين من أسوأ دوافعهم: العنصرية، والنزعة القومية، والسلطوية، والجشع.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا