حرب أهلية باردة في الولايات المتحدة (1/2)

مدة القراءة 7 د

بقلم ديفيد بلايت David W. Blight (فورين أفيرز Foreign Affairs)

 

في عام 1882، كان الأميركي والت ويتمان Walt Whitman (توفي عام 1892) شاعر الديمقراطية وكلّ شيء آخر تقريباً في الروح الإنساني، قلقاً من أن يُقرأ كتابه “أيام شخص نموذجي” Specimen Days”، وقد جُمع من الملاحظات السريعة واليوميات والمذكّرات التي كُتبت أثناء الحرب الأهلية (1861-1865) وبعدها، على أنّه “دفعة من الذكريات المكتوبة المتشنّجة”. لكنه قرّر نشره على أيّ حال. واعترف ويتمان بأنّ الكتابات لم تكن “سوى أجزاء من الإلهاء الفعلي، والحرارة، والدخان، والإثارة في تلك الأوقات”… “يمكن في الواقع أن توصف الحرب نفسها على نحوٍ أفضل، مع مزاج المجتمع الذي يسبقها، عبر تلك الكلمة نفسها: المتشنّجة convulsiveness“.

كانت الحرب الأهلية الأميركية مأساة ذات أبعاد كارثية. فقد لقي حتفه نحو 750 ألف مقاتل. وخرجت التحوّلات السياسية والدستورية والاقتصادية الكبرى من نتائج هذا الصراع. ماتت التجربة الأميركية ثم وُلدت من جديد. مزّقت الجمهورية نفسها بالخلاف على العبودية، وبالآراء المتضاربة حول جوهر الاتحاد الفدرالي. وبعد مذبحة لا يمكن تصوّرها، شهدت الولايات المتحدة تأسيساً ثانياً للدولة وللدستور فيها. تغيّر كلّ شيء تقريباً. الحرب الأهلية، كما كتب الشاعر وكاتب المقالات الجنوبي روبرت بن وارن Robert Penn Warren (توفي عام 1989) في عام 1961، هي “التاريخ الشعوري” للبلاد. الماضي “عاش في الخيال الوطني”. وقال إنّ هذا الماضي يجذب الأميركيين بوصفه “نبوءة، تعبيراً غامضاً، إنذراً بأمر ما، فيما خصّ المصير الوطني كما الشخصي”. ولا يزال الأميركيون يتأمّلون نفوذ الماضي المستمر، في الفصول الدراسية، وفي الاجتهاد القانوني، وفي المنح الدراسية، وفي الانتخابات، وفي الساحة العامة.

الأميركيون اليوم مستقطَبون في حرب أهلية باردة. وهناك عدد من الأسئلة الأساسية للحرب الأهلية وعهد إعادة البناء Reconstruction  (إعادة تنظيم الجنوب الأميركي بعد الحرب) لا تزال دون حلّ: من هو الأميركي؟ ما هي المساواة، وكيف ينبغي أن تنشأ، وكيف تُصان؟ ما هي العلاقة الصحيحة بين الولايات والحكومة الاتحادية؟ ما هو دور الحكومة في تشكيل المجتمع؟ هل الفدرالية قوة أم ضعف؟

في تشرين الثاني الماضي، أجرت الولايات المتحدة انتخابات رئاسية استدعت إقبالاً قياسياً، لكن كثيراً من الأميركيين يشعرون بالقلق على نحوٍ مشروع من كسر بعض المؤسسات الأساسية في البلاد. لقد كان على جماعة سياسية أن تكافح الجهود المستمرة لقمع الحق في التصويت؛ فيما تتباكى جماعة سياسية أخرى على تزوير الانتخابات دون دليل. إنّ الإنفاذ الاتحادي لحقوق التصويت، الذي كان في يوم من الأيام متعلّقاً بقانون مستقر، أصبح الآن متاحاً للجميع المطالبة به في المحاكم. مجلس الشيوخ والمجمع الانتخابي Electoral College هما من المؤسسات غير الديمقراطية وفق أيّ مقياس معاصر. المحكمة العليا أكثر تسييساً من أيّ وقت مضى في ما يقرب من قرن من الزمان. أصبحت فكرة المساواة أمام القانون مثيرة للجدل كما كانت عندما ظهرت لأول مرة في الدستور في التعديلات التي أعقبت الحرب الأهلية.

ماتت التجربة الأميركية ثم وُلدت من جديد. مزّقت الجمهورية نفسها بالخلاف على العبودية، وبالآراء المتضاربة حول جوهر الاتحاد الفدرالي. وبعد مذبحة لا يمكن تصوّرها، شهدت الولايات المتحدة تأسيساً ثانياً للدولة وللدستور فيها

لقد حوّل الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض إلى وسيلة للسلطوية والفساد الشخصي، ما حطّم المعايير، وخلق مستوى من الفوضى التي لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة منذ الأزمة التي أشعلتها قضية عزل الرئيس أندرو جونسون Andrew Johnson في عام 1868. وفي الوقت نفسه، شهدت أيديولوجية تفوّق البيض، والتي كانت تكمن دائماً في أجنحة الوعي الأميركي، عودة قوية وعنيفة داخل اليمين السياسي.

وتكثر حالياً أصداء إعادة البناء Reconstruction هذه، وستشكّل الحقبة المقبلة. وإذا كان ثمّة أيّ دروس يجب على الأميركيين أن يأخذوها من ذلك الوقت المضطرب، فهي أنه عندما يتعلّق الأمر بحماية الحقوق الأساسية، لا يوجد بديل من السلطة الفدرالية، وأنه في أعقاب الأزمات الوطنية، يجب السعي إلى الشفاء والعدالة معاً – وهو أمر ليس بالأمر السهل.

كانت التركة القاسية والمباشرة للحرب الأهلية، هي الخسارة. لم يؤدِّ سقوط الكونفدرالية (في الجنوب)، والتأسيس الثاني الذي تجسّد في التعديلات الدستورية لعهد إعادة البناء، والذي استمرّ من عام 1863 إلى عام 1877 تقريباً، إلى القضاء على العنصرية أو على العبودية الجديدة في الولايات المتحدة أو حلّ التحدّيات المتأصّلة في الفدرالية. وفي العقود التي تلت ذلك، وعلى الرغم من التقدّم التكنولوجي والاجتماعي، ظلّ من الأسهل غالباً إثارة الصراع العرقي والإثني، كما أكثر فائدة سياسياً من الديمقراطية.

لقد حوّل الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض إلى وسيلة للسلطوية والفساد الشخصي، ما حطّم المعايير، وخلق مستوى من الفوضى التي لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة منذ الأزمة التي أشعلتها قضية عزل الرئيس أندرو جونسون Andrew Johnson في عام 1868

 

الراديكالية والمقاومة

في أول رسالة سنوية له إلى الكونغرس، ألقاها في 3 كانون الأول 1861، أعرب الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن Abraham Lincoln عن أمله في ألّا تتحوّل الحرب الأهلية إلى “نضال ثوري عنيف لا ندم عليه”. وفي تلك المرحلة، كان لا يزال يأمل في حصر أهداف الشمال في الحفاظ على الاتحاد، بدلاً من توسيع المهمة لتشمل إنهاء الرق. وبعد ما يزيد قليلاً عن ثلاث سنوات، اعترف لنكولن في خطابه الافتتاحي الثاني – الذي كان آنذاك يقود آلة حرب سعت رسمياً إلى إلغاء الرق – بأنّ “الجميع عرفوا” الآن أنّ العبودية هي في الواقع “سبب الحرب”. وأعلن أنّ كلا الجانبين “بحثا عن انتصار أسهل، وعن نتيجة أقل من حيث الأساس والتأثير”. ثم اعترف، بمزيج من شعور الأسف على المأساة، والهدفية الثابتة، بأن الحرب قد جلبت الثورات ذاتها التي حاول هو وآخرون كثيرون تجنّبها. إنّ الأزمات الممتدة التي تلت ذلك، والعلامات الدائمة لما تعنيه تلك الثورات، هي ما أصبح يُعرف باسم إعادة البناء.

إقرأ أيضاً: على بايدن استعادة جاذبية أميركا أكاديمياً وفي مكافحة الفساد (2/2)

فبعد استسلام القوات الكونفدرالية في عام 1865، جرى تسريح معظم جيوش الولايات المتحدة والاتحاد الكونفدرالي. ولكن استمرت درجات متفاوتة من الاحتلال العسكري لمدة ثلاث سنوات تقريباً في معظم أنحاء الجنوب، وفي بعض المناطق حتى عام 1871.

وكما يشير المؤرخ غريغوري داونز Gregory Downs في كتابه “بعد أبوماتكس” “After Appomattox“، (أبوماتكس هي المدينة التي لجأ إليها الجنرال الجنوبي المهزوم روبرت لي Robert Lee قبل توقيع وثيقة الاستسلام)، فقد أرست الحكومة الاتحادية في السنوات الأولى من إعادة البناء، “احتلالاً طموحاً أيديولوجياً ومكانياً” للجنوب الذي جرى غزوه. ولكن سياسة استعادة الاتحاد وتوسيع نطاق حقوق الإنسان الأساسية لتشمل العبيد المحرَّرين أصبحت حرباً بوسائل أخرى. وبدون أيّ مخطّط مسبق، تبنّى أعضاء الكونغرس في الحزب الجمهوري – ولا سيما فصيل منهم يُعرف باسم الجمهوريين الراديكاليين Radical Republicans – رؤية عدوانية لاستخدام الحكومة الناشطة من أجل إعادة تشكيل الجنوب وبقية البلاد. وكان الدرس المستفاد من جهودهم واضحاً: فالحرية الحقيقية لا يمكن أن تصوغها وتحميها إلا الدولة، وبإنفاذ القانون، وأحياناً بالوسائل العسكرية.

 

في الحلقة المقبلة: أميركا تحتاج إلى إعادة بناء (2/2)

 

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…