تستمرّ الحملة السياسية والإعلامية الإيرانية في الذكرى السنوية الأولى لتصفية قائد “وحدة القدس” في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. وتتواصل معها عملية التضليل والتخوين وقلب الحقائق ودسّ الروايات المغلوطة والآراء المنحرفة في قلب الأحداث الجارية، في إطار مسعى تكوين الصورة والمسرح والميدان وفق الرؤية الإيرانية القائمة على الاستعلاء والعنصرية وإلغاء الآخرين وتقديس الذات.
من العجائب التي أراد نصرالله أن يجعلها من أعمدة تاريخ لبنان المعاصر، ما رواه عن خلفيّة إنشاء “حزب الله” في لبنان، وهي رواية فيها الكثير من العدوان على المنطق والحقوق وقواعد العلاقات الدوليّة وعلى ما يمكن تسميته “العلاقات الأخوية” بين العرب والمسلمين. فكيف يمكن لدولتين (سوريا وإيران)، أن تجتمعا وتقرِّرا إنشاء جيش داخل دولة ثالثة (لبنان)، وكأنها بلا شعب ولا كيان ثم تشكلان تحالفاً لاستهداف لبنان “النموذج التعدُّدي”، العربي الهوية والانتماء وصاحب العلاقات المتنوّعة مع المجتمع الدولي؟
قال نصرالله إنّ إيران دعمت لبنان، وهذا طبعاً مخالف للواقع، إلاّ إذا كان يعتبر نفسه وحزبه هم فقط لبنان. ويرى أنّها دعمت البلد لتمكينه من الدفاع عن نفسه. وواقع الحال أنّ طهران دعمت فئة مذهبية محدّدة مستبعِدة الدولة ومؤسساتها الشرعية ومُستولية على قرار السلم والحرب من دون إشراك اللبنانيين في هذا القرار، وهكذا خاض “اللبنانيون الإيرانيون” حروبهم محوّلين البلد وأهله إلى رهائن.
من العجائب التي أراد نصرالله أن يجعلها من أعمدة تاريخ لبنان المعاصر، ما رواه عن خلفيّة إنشاء “حزب الله” في لبنان، وهي رواية فيها الكثير من العدوان على المنطق والحقوق وقواعد العلاقات الدوليّة وعلى ما يمكن تسميته “العلاقات الأخوية” بين العرب والمسلمين
يفتخر نصرالله أنّ لبنان جبهة أمامية منذ نشوء الكيان الإسرائيلي لأنّه كان قبل ظهور حزبه يتلقى الاعتداءات والانتهاكات وهو اليوم جبهة أمامية مختلفة، وأنّ “لبنان القوي” هو الذي يُجبر العالم على النظر إليه، وأنّ الأميركيين والأوروبيين يسألون عن لبنان بسبب الصواريخ التي قدّمتها إيران للحزب.
وفي هذا النقاش نقطتان:
الأولى: أنّ لبنان ما زال يتلقّى الانتهاكات الإسرائيلية، لكنّه أيضاً يتلقى كلّ أشكال القمع السياسي والأمني من قِبَلِ من يـُفترض أنّه حرّر البلد من الاحتلال، فإذا به يفاخر بارتكاب إثم السابع من أيار يوم تحوّل سلاح المقاومة إلى سلاح غدر. وباتت هذه الممارسة “نهجاً” يومياً في السيطرة على لبنان.
الثانية: صحيح أنّ لبنان اليوم تحت النظر الدولي، لكنّها نظرة الاستعداء والحصار مكان نظرة الانفتاح والتعاون التي قضى عليها “حزب الله” حتّى أصبحنا بلداً محاصراً ينتظر أهله الولوج إلى جنهم.
أما المال والازدهار، فهو بالتأكيد لن يأتي من صواريخ “حزب الله” لأنّ أحداً في العالم لن يستثمر في نفطنا وغازنا في ظلال منصّات الصواريخ، فضلاً عن أنّ لبنان كان قد شهد ازدهاراً ونهضة لم يوقفها سوى إصرار النظام السوري على ابتلاع ثرواته وانغماس الحزب في حربه على العرب وصولاً إلى استيلائه الكامل على السلطة واستعداء العالم من حولنا.
تمتلك إيران فعلاً النفط والغاز، لكنها لا تتمكن من استثماره بسبب حربها المفتوحة على العرب وإصرارها على الفوز باعتراف أميركي باحتلالها عواصم عربية. فبماذا يفيد النفط إذا تحوّلنا إلى النموذج الإيراني أو الفنزويلي؟ مع التذكير بأنّ ما يسميه نصرالله “بركة المقاومة وصواريخها” كانت موجودة منذ زمن الهيمنة السورية على لبنان، لكنّ دمشق وطهران حرّمتا طيلة تلك الفترة على اللبنانيين مجرّد الحديث عن ثروتهم النفطية. فلماذا كان ذلك الحظر النفطيّ الممانِع قائماً وبات الآن “واجباً وطنياً”؟
“نحن في لبنان لا يمكن أن نساوي بين من دعمنا بالموقف والمال والسلاح واستشهد معنا، وجعلنا قوّة ردع في وجه العدوّ وبين من تآمر على لبنان، ودعم الاسرائيلي في احتلاله”، يقول نصرالله.
لكن في الواقع: كيف لا يمكن المساواة بين عدوّ يحتل أرضنا ويهدّد أمن العرب، وهو “إسرائيل” وبين عدوّ آخر، هو إيران، اجتاح أربع دول عربية وحوّلها إلى جحيم، فدمّر اليمن وخرّب العراق وأباد سوريا، وأسقط لبنان في الانهيار.
في تقييم الموقف الراهن، تصبح الأولوية لوقف العدوان الزاحف وتحييد العدوّ الواقف.
أما أكثر ما يقوله نصرالله إثارة للعجب فهو إصرارُه على أنّ حزبه هو الأكثر استقلالاً في تاريخ البشرية (أي منذ آدم عليه السلام حتى اليوم). لكن كيف يكون مستقلاً وهو جندي في جيش الوليّ الفقيه ينتظر من “سماحة القائد” التعليمات من غرف العمليات العسكرية التي اعترف نصرالله بإنشائها في طهران لإدارة العمليات في لبنان والعالم العربي؟
تمتلك إيران فعلاً النفط والغاز، لكنها لا تتمكن من استثماره بسبب حربها المفتوحة على العرب وإصرارها على الفوز باعتراف أميركي باحتلالها عواصم عربية
كيف تستقيم المقاومة والأخلاق مع تهريب النيترات والمتفجرات والمخدّرات الذي تكشفه دول كثيرة، آخرُها مصر وإيطاليا وقبلها البرازيل والكويت وغيرها.. وكيف تستقيم الإنسانية مع حرمان اللبنانيين من طحينهم ومشتقاتهم النفطية ودولاراتهم وسائر مستلزماتهم عبر تهريبها إلى النظام السوري.
لقد كشف انفجار الخزانات الضخمة في بلدة القصر الحجم الهائل لهذا الاستلاب لحقوق اللبنانيين ودفعها خارج الحدود. وقد أزال الانفجار ما يبدو أنّه كان المركز الرئيس المعتمد من قبل الحزب لتهريب المشتقات النفطية إلى الداخل السوري. وقد نظّر بعض أبرز معمّمي الحزب لضرورة التهريب باعتباره أحد وسائل الصمود.
إقرأ أيضاً: هل علينا أن نتعاطف مع حسن نصرالله؟
من أكبر عورات “حزب الله” أنّه يكاد يكون الوحيد في العالم الذي تحوّل من قوّة تحرير إلى قوّة احتلال وتدمير داخلي وخارجي. ومن أخطر نتائج هذا المسار هو ذلك الخلط المستحيل بين الانتماء الوطني والانتساب لمشروع يهدم الدولة والكيان لصالح دولة أخرى لا حدود لنا معها حتّى.
لا تستقيم المقاومة مع الظلم والعدوان، ولا مع التهريب ونشر المتفجرات والمخدرات الموت في لبنان والعالم. والحزب في هذه الحال نموذجٌ لا يرتقي إطلاقاً إلى المنهج الإسلامي الأخلاقي في الجهاد ومعاملة الشعوب، ولا يصل إلى النموذج اليساري العالمي الآفل. فنحن أمام حالة تتردّى فيها السلوكيات إلى منحدر في أسفل سلّم القيّم السياسية والإنسانية.