تكاد الحرب السورية تكمل عامها العاشر دون أمل بحلّ سياسي مقبول نسبياً لكلّ من النظام والمعارضة بما يمثّلانه من شرائح اجتماعية وطائفية وفق معادلة الربح للجميع (Win-Win)، بدل القتال حتى آخر رجل، من أجل آخر شبر من الأرض. فطموحات الحسم العسكري عند النظام وحلفائه تتعاظم كلما تقدّم القضم التدريجي لمناطق المعارضة، وآمال المعارضة تترنّح وسط الاعتماد على ضرورات الأمن القومي التركي خاصة من أجل الصمود العسكري في آخر المعاقل، وعلى الموقف الأميركي لتحقيق التغيير السياسي بمجرّد الضغط الاقتصادي على النظام (لا سيما بعد تطبيق قانون قيصر الصادر عن الكونغرس الأميركي في حزيران الماضي، وتجلّى بتقويض الاقتصاد السوري وانهيار الليرة السورية في عام 2020 وحده بنسبة 211% من 900 ليرة للدولار إلى 2800 ليرة للدولار) فما منع سقوط النظام في البدايات ما زال هو نفسه يمنعه في النهايات، ويتمثّل بخط أحمر إسرائيلي على وجه الخصوص، على قاعدة أنّ من تعرفه وجرّبته خلال عشرات السنوات أفضل ممن لا تعرفه حق المعرفة ولا يمكن الركون إلى مخاطر التعامل مع المكوّن السني الأكثري. ويبدو كذلك أنّ الهزيمة الكاملة للمعارضة لا تلائم القوى الإقليمية والدولية التي تريد الإفادة من المعارضة كورقة ضغط لتعديل شكل النظام المنتصر عسكرياً – بقوّة الحلفاء – المهزوم سياسياً، فإما أن يغيّر النظام سلوكه، أو يتغيّر رأس النظام ولو بانتخابات رئاسية تُشرف عليها الأمم المتحدة. وحتى هذا الحدّ الأدنى من التغيير المطلوب في سوريا، هو مرفوض من دمشق وحلفائها!
أما الدول والقوى غير السورية وغير العربية التي انجرّت إلى ميدان المعارك الطاحنة، فباتت عبئاً ثقيلاً أكثر فأكثر، عاماً بعد آخر. دخلت إيران ومعها الميليشيات المتنوّعة، منذ الاهتزازات الشعبية الأولى، للحفاظ على “شريان المقاومة” بذريعة الدفاع عن المزارات الدينية. وعندما فشلت إيران في حسم المعركة. استُدعيت روسيا إلى المشهد، في أيلول 2015 فأمعنت في تسعيره، خدمةً لحسابات استراتيجية معقدة مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي. والولايات المتحدة التي شجّعت الثورة السورية ابتداءً، وحاولت توجيهها، كما فعلت مع الثورات العربية الربيعية الأخرى، باعت الورقة السورية على مذبح الاتفاق النووي الإيراني، واختزلت المشهد كله بمقاتلة داعش بوساطة الانفصاليين الأكراد. ومع توسع النفوذ الكردي في الشمال بدعم أميركي واسع، اندرجت تركيا مباشرة في اللعبة، لا لتدعم المعارضة السورية ضد النظام، بل لتحمي نفسها من الدولة الكردية.
اللجوء إلى الحلّ السياسي التفاوضي بين النظام والمعارضة، هو نتيجة طبيعية لمقولة عدم إمكانية الحلّ العسكري في سوريا، والتي تبنّتها الدول الداعمة للمعارضة
وإنّ الخط الأحمر الذي أعلنه الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، لتحذير دمشق من استعمال السلاح الكيماوي ضد معارضيه، صار مدعاة للسخرية المريرة، كما هو حال الخط الأحمر الذي أعلنه الرئيس التركي أردوغان منذ السنة الأولى، لتحذير النظام من اقتحام حماة العامرة آنذاك بأكبر التظاهرات السلمية. وكما ردّ النظامُ على إنذار أوباما، بأن حوّله إلى مشهدية مؤلمة في الغوطة الشرقية في 21 آب 2013، سقط فيها اختناقاً بغاز السارين أكثر من 1400 سوري بينهم عدد كبير من الأطفال. كذلك استهزأ النظام قبل ذلك بإنذار أردوغان، واقتحم حماة عشية أول يوم من شهر رمضان عام 2011، ففضّ التحرّكات الشعبية بالحديد والنار، وقتل المئات.
كان التدخل إيرانياً، فتزاوج مع دخول روسي. ثم عَبَر الأتراك الخطوط الحدودية شمالاً متأخرين، فنشأت ثلاثية عقيمة، ينفي بعضها بعضاً. فلا حسم للنظام وإن بات يسيطر على أكثر من 72% من إجمالي الأراضي السورية بعد أن كان يسيطر على أجزاء ضئيلة جداً لا تتجاوز 20%، منها 10% سيطرة مشتركة بين النظام والقوات الكردية، فيما تبلغ المناطق الخاضعة لتركيا والفصائل الموالية لها 4,9% من مساحة سوريا، والمساحة الخاضعة للفصائل الإسلامية 2,6% (4874?2 كلم مربع) وتسيطر الفصائل المدعومة أميركياً على ما يقرب من 2,6%، وبقي لتنظيم داعش 1,8% من المساحة الإجمالية بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. ولا حسم للمعارضة، التي انحشرت مناطق سيطرتها بمحاذاة الحدود التركية، بما يشكّل حزاماً أمنياً لحماية الأمن القومي التركي بالدرجة الأولى (منع تمدّد الأكراد وتهديد الأمن التركي الداخلي، وكبح لجوء ملايين إضافية من السوريين إلى تركيا).
تكمن عقدة الحلّ المنشود في نهاية المطاف، أنّ النظام المنتصر بقوة حلفائه الإقليميين والدوليين، لا يمكن أن يُنتج نفسه، منتصف العام الجاري، وكأن شيئاً لم يكن
هذا التفاهم الإيراني الروسي التركي، كان وبالاً على المعارضة السورية، التي خسرت أبرز معاقلها في حلب الشرقية، ثم في أجزاء واسعة من أرياف دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب فضلاً عن محافظتي درعا والقنيطرة في الجنوب، تحت عنوان إنشاء مناطق خفض التصعيد التسعة، المتفق عليها في آستانا عاصمة كازاخستان عام 2017. وفي غضون أقل من ثلاث سنوات فقط، لم يبق بيد المعارضة سوى أجزاء من محافظة إدلب، لا سيما بعد عملية عسكرية روسية هي الأعنف على الإطلاق العام المنصرم، أدّت إلى سيطرة النظام على 276 منطقة في أرياف إدلب وحلب وحماة، وذلك خلال فترة قصيرة جداً امتدت من كانون الثاني وحتى مطلع آذار قبل الاتفاق على وقف إطلاق نار في الخامس من آذار الماضي، بين أردوغان وبوتين.
بالمقابل، توسعت تركيا في المنطقة الشمالية الغربية التي كانت تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردي، على ثلاث دفعات، عملية “درع الفرات” ضدّ داعش بشكل رئيسي عام 2016، وعملية “غصن الزيتون” للسيطرة على منطقة عفرين عام 2018، وعملية “نبع السلام” عام 2019 تحت عنوان إقامة منطقة آمنة في الشمال. فأصبحت المناطق الباقية تحت سيطرة المعارضة، في القبضة التركية شبه الكاملة، وورقة أخيرة في يد أنقرة خلال التفاوض على الحلّ السياسي في سوريا، والذي لم يعد محلياً بطبيعة الأحوال.
اللجوء إلى الحلّ السياسي التفاوضي بين النظام والمعارضة، هو نتيجة طبيعية لمقولة عدم إمكانية الحلّ العسكري في سوريا، والتي تبنّتها الدول الداعمة للمعارضة. وهذه معادلة من طرف واحد، لأن الدول الداعمة للنظام، تسعى منذ سنوات بكلّ ما أوتيت من قوة، للحسم العسكري، بما يعنيه من طرد ملايين المعارضين من الجيوب الأخيرة، كي ينضموا إلى ملايين أخرى في الشتات. تتمثّل المشكلة لدى معسكر النظام وحلفائه في هذا الفائض البشري من المكوّن السنّي، ولا حلّ إلا بالتخلّص منه بشتى الوسائل. وتختلف تقديرات الخسائر في سوريا، لكنها في أدناها تصل إلى نصف مليون تقريباً، من بينهم أكثر من 88 ألفاً ماتوا في معتقلات النظام، (وتقول مصادر أخرى إنّ الرقم أعلى بكثير)، فضلاً عن عشرات آلاف القتلى من الجنود النظاميين والمنشقين ومن فصائل المعارضة، دون حسبان قتلى تنظيم داعش خلال الحملات العسكرية ضدّه. أما المفوضية السامية لشؤون اللاجئين النابعة للأمم المتحدة فقدّرت عدد النازحين عام 2019 بسبب الحرب بنصف سكان سوريا، والمقدّر عددهم بـ 22 مليون فرد. فهناك 5,6 مليون خارج سوريا، وملايين النازحين داخلها. في هذا الوضع الكارثي، يريد بشار الأسد ومن ورائه حلفاؤه أن يستمر في الحكم في انتخابات رئاسية مقرّرة في منتصف عام 2021. فيما انتقل الكلام من إعداد مرحلة انتقالية بحسب نص القرار الدولي رقم 2042، ثم بيان جنيف 1، إلى تعديل الدستور الحالي الصادر عام 2012، أو سنّ دستور جديد، وتشكيل اللجنة الدستورية عام 2019، لهذا الأمر، وتتألف من 150 عضواً، 50 لكل من النظام والمعارضة و50 مقعداً للمجتمع المدني تختارهم الأمم المتحدة. ومن الإصرار على العدالة الانتقالية التي ترافق تغيير النظام الاستبدادي عادة، إلى الكلام عن العدالة التصالحية والتي هي تعبير عن التساوي المعنوي بين النظام والمعارضة، من باب التسامح المتبادل، وبما “يعزّز الانسجام الاجتماعي من خلال علاج الضحايا والجناة والمجتمعات المحلية”!
تكمن عقدة الحلّ المنشود في نهاية المطاف، أنّ النظام المنتصر بقوة حلفائه الإقليميين والدوليين، لا يمكن أن يُنتج نفسه، منتصف العام الجاري، وكأن شيئاً لم يكن. صحيح أنّ العالم يعلم تمام العلم، ما الذي ارتكبه في المعتقلات والسجون وفي ميادين القتال، وما الذي قذفه من أعالي السماء على المدن والقرى الآهلة بالسكان المدنيين. ومع ذلك، تقضي الحسابات السياسية بالإبقاء عليه بعد تعديله. هنا يرفض حلفاؤه لا سيما إيران أدنى تعديل حقيقي، لأن مجرد القبول بتغيير رأس النظام، اعتراف بعدم عدالة التدخل الإيراني من الأساس.
إقرأ أيضاً: سوريا 2020: صعود نجم أسماء وأفوله
أما إدخال بشار الأسد قسراً كجزء من الحلّ فيما هو أساس المشكلة، فيعترضه عقبتان قانونيتان تتخطّيان إلى حدّ كبير كلّ المتغيّرات السياسية. الأولى، ما كشفه عنصر منشق عن النظام عام 2013 من صور القتلى المعذّبين في المعتقلات (55 ألف صورة لـ 11 ألف قتيل)، وعلى أساسه صدر قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين عن الكونغرس الأميركي. والثانية، تورّط النظام باستعمال السلاح الكيماوي ضدّ مناطق سكنية في الغوطة الشرقية عام 2013، كما في خان شيخون 2017 وغيرها، أي حتى بعد التسوية الأميركية الروسية القاضية بنزع سلاحه الكيماوي، وصدور القرار الدولي رقم 2235 والذي يقضي بالتحقيق بالهجمات الكيماوية. وفوق ذلك كله، أنّ إسرائيل التي ارتضت بقاء النظام، لا تريد بقاء إيران وميليشياتها في سوريا. وكأن لسان حالها يقول: “انتهت المهمة، فماذا تفعلون هناك”.