تيران وصنافير: الخروج من “كامب ديفيد”؟

مدة القراءة 6 د

تعني إعادة إثارة مسألة جزيرتَيْ تيران وصنافير هذه الأيام أنّ ما اعتُبر ناجزاً وأقُفل وبات من الماضي هو جمر تحت الرماد ما زال يسهل إيقاظه. فالاتفاق المعقّد المتعدّد الأطراف، الذي شمل مصر والسعودية وإسرائيل والولايات المتحدة، قابل للنقض والتعثّر والمراجعة كلّما ارتأى أحد شركاء الصفقة مراجعة موقفه. وفيما تصمت العواصم المعنيّة، أطلق ما كشفه صحافي إسرائيلي على موقع “أكسيوس” الأميركي رسائل قد يصعب فكّ شيفرتها.

 

تململ مصريّ ملتبس

لم تعلن القاهرة أيّ توضيح لِما ذكره الموقع الأميركي من تحفّظات مصرية في شأن تنفيذ تدابير نقل السيادة على الجزيرتين من مصر إلى السعودية. ولذلك التبست أسباب هذا الاعتراض المصري، الذي لم يتّضح هل هو ناتج عن تفاصيل تتعلّق بالسعودية أو إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة، والذي أتى بعد أيام من عودة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من الولايات المتحدة حيث شارك في القمّة الأميركية – الإفريقية التي عُقدت في 13 كانون الأول الجاري في واشنطن.

قد لا يهمّ ذلك. لكنّ القاهرة غير راضية و”اللبيب من الإشارة يفهم”. 

يعود أساس الخلافات على الجزيرتين إلى تعدّد نسخ التاريخ التي تثبّت رواية السيادة عليهما منذ الاتفاقية بين الدولة العثمانية وبريطانيا عام 1906

دار جدل كبير في شأن الاتفاق الذي أبرمه الرئيس المصري مع عاهل السعودية الملك سلمان بن عبد العزيز في 8 نيسان 2016 لنقل سيادة الجزيرتين إلى السعودية. دار جدل في السبب والتوقيت وحيثيات ومنافع الطرفين من هذا الاتفاق. ودار جدل داخل مصر في شرعية التحوّل وأحقّيّة السعودية بالجزيرتين. ودار جدل في مستقبل التحوّل السيادي وأثره على علاقات السعودية مع إسرائيل. انتهى هذا كلّه في مصر إلى مصادقة البرلمان المصري على الاتفاق في حزيران 2017 وموافقة المحكمة الدستورية عليه في آذار 2018. 

 

تاريخ بنسخ عدّة

تبعد جزيرة تيران البالغة مساحتها 61.5 كيلومتراً مربّعاً قرابة 6 كيلومترات عن الساحل الشرقي لشبه جزيرة سيناء، حيث تقع مدينة شرم الشيخ. أمّا جزيرة صنافير فتبلغ مساحتها 33 كيلومتراً مربّعاً وتقع على بعد 2.5 كيلومتر شرقاً. يمثّل موقعا الجزيرتين أهميّة استراتيجية كبيرة تفسّر أسباب العِقَد التي تواجه أيّ تغيير قانوني أو سياسي يتعلّق بهما.

يعود أساس الخلافات على الجزيرتين إلى تعدّد نسخ التاريخ التي تثبّت رواية السيادة عليهما منذ الاتفاقية بين الدولة العثمانية وبريطانيا عام 1906، وصولاً إلى قرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عام 1967 بإغلاق مضيق تيران، الذي حدّ من وصول إسرائيل البحري إلى ميناء إيلات في خليج العقبة، وكان واحداً من أسباب تفجّر الحرب الشهيرة ذلك العام واستيلاء إسرائيل على الجزيرتين، وانتهاء بإعادتهما إلى مصر في عام 1982 بعد ثلاث سنوات من توقيعها اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل.

ربّما تقف تفاهمات غير معلنة رسمياً وراء إبرام الرياض والقاهرة صفقة تيران وصنافير. ولا شكّ أنّ مروحة واسعة من التعاون الاقتصادي والتنموي بين البلدين سهّلت وحفّزت تقاطع مصالح مصر والسعودية على عقد اتفاق بشأن الجزيرتين. لكنّ المصالح الإسرائيلية كانت أيضاً جزءاً من تفاصيل تحوُّل سيادة الجزيرتين من مصر إلى السعودية. ذلك أنّ إجراءات أمنيّة نصّ عليها اتفاق انسحاب إسرائيل من الجزيرتين، ومن ضمنها وجود قوات متعدّدة الجنسيات فيهما. لكن من بديهيات انتقال السيادة أن تخلوا من وجود أجنبي حتى لو فرضته نصوص الاتفاقات السابقة.

لم تقبل الرياض أن يستمرّ وجود القوات المتعدّدة الجنسيّات في جزيرة تيران التي ستصبح سعودية. ووفق ذلك كان مطلوباً أن يجري تعديل على اتفاقات كامب ديفيد توافق عليه إسرائيل يقضي بإخراج تلك القوات. فقضت التفاهمات بتمركز تلك القوات الدولية داخل البرّ المصري في سيناء واستخدام التكنولوجيا والكاميرات الحديثة لمواصلة الالتزام بالاتفاقية وضمان أمن إسرائيل. 

تطلّعت إسرائيل من خلال موافقتها على التعديل إلى علاقات متقدّمة مع السعودية تحاكي الاتفاقات الإبراهيمية. فتحت السعودية أجواءها أمام الطائرات الإسرائيلية إلى البحرين والإمارات، فيما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء زيارته السعودية في تموز 2022 عن اتفاق ينهي وجود القوات المتعدّدة الجنسيات في الجزيرتين الذي استمرّ 40 عاماً. رحّب بيان البيت الأبيض آنذاك بـ”التوصّل إلى ترتيبات لسحب هذه القوات جرى التفاوض عليها طوال أشهر عدّة، وأخذت في الاعتبار مصالح جميع الأطراف، ومن بينها إسرائيل”.

كان كلّ شيء منجزاً. لكنّ شيئاً ما، مصدره مصري وفق مزاعم “أكسيوس”، يؤخّر تنفيذ اتفاق الجزيرتين.

نزاع مصريّ – أميركيّ خافت

لن تنسحب القوات المتعدّدة الجنسيات في نهاية كانون الأول الجاري كما كان مقرّراً. وتشير الهمهمات إلى نزاع مصري – أميركي على تنفيذ الولايات المتحدة تعهّدات عسكرية تشمل تسليم تقنيّات خاصة بمقاتلات إف 16 الأميركية التي تمتلكها مصر، وإلى إشكالية في العلاقة بين القاهرة والإدارة الديمقراطية في واشنطن. ويروّج ضجيج لتحفّظات تتعلّق بآليّات المراقبة الدولية من سيناء وفق الاتفاق الذي أعلنه بايدن في جدّة الصيف الماضي. يثير الموقع الصحافي ضيق القاهرة بتشوّه يشوب سيرورة العلاقة مع واشنطن، وتأثيره على التزامات الولايات المتحدة بإعطاء المنح العسكرية المنصوص عليها داخل اتفاقية كامب ديفيد. وداخل هذا السياق يمكن إثارة سلسلة من المواقف الأميركية السلبية تجاه القاهرة لا تتّسق مع الطابع الاستراتيجي للعلاقة بين البلدين. 

الأرجح أنّ “المناورة” المصرية تجري بموافقة السعودية وليس بالتناقض معها. فإذا ما كانت مصر تعبّر عن حساسية حيال وجود دولي مباشر أو تكنولوجي مراقِب للمنطقة، فالقاهرة والرياض ليستا معنيّتين بأن تكون سيادة جزر ستصبح جزءاً من ميدان تعاون اقتصادي واعد بينهما خاضعةً لمراقبة أجنبية. وإذا ما كانت واشنطن معنيّة برعاية اتفاق يطال هذه المنطقة، فإنّ لمصر والسعودية مجتمعتين أو منفصلتين الحقّ في تعظيم مكاسبهما ووضع شروطهما لتحسين مواقعهما على الخارطة الدولية. 

إقرأ أيضاً: “حراك مهسا”: طهران قلقة والمرشد يُنذر بالصدام

وإذا ما كانت واشنطن معنيّة بالاستماع إلى إسرائيل ورعاية مصالحها والسهر على انخراطها في اتفاق الجزيرتين، فإنّ في ثنايا التحفّظ المصري بعد أيام من عودة السيسي من واشنطن ما يوحي بأنّ في تفاصيل تلك الزيارة ما دفع مصر إلى أن تكشف للشركاء جميعاً عن أوراق وجب أخذها جدّيّاً بعين الاعتبار قبل أن يغيّر التحوّل الجيوستراتيجي لتيران وصنافير وجه المنطقة. 

 

لمتابعة الكاتب عبر تويتر: mohamadkawas@

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…