في الآتي حكاية موثقة، بالمستندات الرسمية، التي يتفرّد “أساس” بنشرها، عن خصخصة قطاع البريد التابع للدولة، لشركة يملكها رجل الأعمال، ثم الوزير، ثم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
أسوأ ما في الحكاية أنّ جلسة الحكومة التي قال ميقاتي إنّها كانت “طارئة” لمرضى غسيل الكلى ولوازم المستشفيات، شهدت فضيحة لا علاقة لأيّ طارىء بها، وهو منح “براءة ذمة” لدفتر شروط المزايدة المقبلة المنوي إجراؤها في 24 كانون الثاني المقبل (مرفق PDF). في الجلسة الأخيرة، ومن خارج جدول الأعمال، في 5 كانون الأوّل الجاري (2022)، اقترح وزير الاتصالات جوني قرم القرار، ممهّداً الطريق لـ”ليبان بوست” للمشاركة فيها من جديد والقبض على القطاع لـ12 سنة مقبلة، بعد تجاهل تفاصيل تقرير ديوان المحاسبة، والتمسّك بملاحظة وحيدة من التقرير تنصّ على “ضرورة إعداد مخالصة ماليّة بين وزارة الاتصالات – مديرية البريد وشركة ليبان بوست”.
في هذا التحقيق تفاصيل حصرية عن هذه المزايدة، وكيف تجنّد الحكومة جلساتها “المثمرة” لتعديل عقود التلزيم بما يخدم مصالح الشركة المشغّلة ويزيد عجز الخزينة. حتّى إنّه يمكن أن تطالب هذه الشركة الدولة بتكلفةٍ تشغيليةٍ تتجاوز إيرادات الدولة منها.
يشرح مرجع قضائي وقانوني لـ”أساس” أنّ المخالصة من حيث الشكل حاصلة على موافقة هيئة التشريع والاستشارات وديوان المحاسبة ومجلس الوزراء
ديوان المحاسبة:
الجديد تقرير ديوان المحاسبة المخصّص للتدقيق بعقد تلزيم “قطاع البريد” وحصّة الدولة من التلزيم، (مرفق PDF) مع توسّع في سرد أبرز تفاصيله التي تُظهِر حجم هدر المال العامّ الممنهج في هذا العقد وتعديلاته على مدى 20 عاماً من التلزيم.
يشرح مرجع قضائي وقانوني لـ”أساس” أنّ المخالصة من حيث الشكل حاصلة على موافقة هيئة التشريع والاستشارات وديوان المحاسبة ومجلس الوزراء، وهو “ما يعني أنّ ثلاث مؤسّسات رقابية قالت إنّ هذه المخالصة مستوفية للشروط القانونية”، لكنّ اليوم حالة عدم الثقة بالدولة هي التي تؤدّي إلى التصويب على كلّ تسوية تحصل والتشكُّك في قانونيّتها، خصوصاً أنّ صاحب الشركة هو رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
هذا بالنسبة إلى المخالصة، لكن ماذا عن كامل عقد التلزيم طوال كلّ هذه السنوات، وكما يبدو تكمن الشياطين دائماً في التفاصيل، فما هي شياطين العقد الموقّع بين الدولة وليبان بوست منذ عام 1998؟
تقرير ديوان المحاسبة
في تقريره المؤلّف من 60 صفحة والصادر بتاريخ 18/6/2021، يدقّق ديوان المحاسبة في عقد تلزيم قطاع البريد لشركة ليبان بوست مع سائر تعديلاته، وحصّة الدولة من التلزيم، بدءاً من عام 2001 حتى 31/12/2019.
أبرز نقاط هذا التقرير للرأي العام اللبناني ليعرف كيف تبيع الدولة حقوقها لشركات خاصة، وكيف تصبح مديونةً لها في بعض الأحيان، مقدّماً نموذجاً يشبه واقع جميع القطاعات الحيوية في الدولة التي يتجاوزها أحياناً ويقترب منها أحياناً أخرى.
ليبان بوست شركة بريدية مملوكة للقطاع الخاص، ومسؤولة عن تشغيل القطاع البريدي في لبنان. تقدّم أكثر من ألف خدمة تشمل البريد العادي والبريد السريع والخدمات المالية وأنشطة البيع بالتجزئة والتسوّق والأعمال التجارية والخدمات الحكومية. أجرى المناقصة مجلس الإنماء والإعمار فرسا العقد على شركة “كندا بوست” ومجموعة “بروفاك” الكندية المتمثّلتين لاحقاً بشركة “ليبان بوست”. وجرى توقيع العقد معها في 22/7/1998 وباشرت عملها بتاريخ 21/10 من العام نفسه لمدّة 12 سنة، إلا أنّه بتاريخ 12/4/2000 صدر قرار عن مجلس الوزراء بإعادة تحديد مباشرة التنفيذ وتحديد مدّة العقد بخمس عشرة سنة بدلاً من 12.
تعديلات العقد:
جرى تعديل العقد الأساسي الذي تبلغ مدّته 12 سنة ثلاث مرّات خلال أربع سنوات:
-التعديل الأوّل بتاريخ 9/6/1999.
-التعديل الثاني بتاريخ 9/8/2000 و16/8/2000.
-التعديل الثالث بتاريخ 30/8/2001 و16/6/2002.
من أكثر التعديلات خفض بدلات الإيجار لمركز بيروت للفرز في المطار ولمركز رياض الصلح من 1,200,000 دولار أميركي، إلى 600 ألف دولار أميركي، وإضافة الطابق الأرضي في مركز الفرز في المطار إلى الأبنية المؤجّرة من دون بدل إضافي.
اعتبر ديوان المحاسبة في تقريره أنّ معظم التعديلات كانت تصبّ في مصلحة الشركة المشغّلة أكثر منها في مصلحة الدولة. وعلى سبيل المثال، أكسب التكليف المعطى للشركة بمراقبة وضبط شركات نقل البريد الدولية في المطارات وغيرها من المداخل الدولية، الشركة تعويضاً شهرياً غير خاضع لمشاركة الدولة يصل إلى 50 ألف دولار، أي ما يعادل 600 ألف دولار باحتساب نسبة 5% (حصة الوزارة) على مدى 20 سنة.
الجدير ذكره أنّه تمّ وضع الطابق الأرضي من مكتب البريد في المطار بتصرّف الشركة من دون أيّ بدل ماديّ، ولم تطبّق نسبة الزيادة كلّ ثلاث سنوات على تعويض الإشغال للمكاتب الموضوعة بتصرّف الشركة. وهذا يشكّل مخالفة صريحة لأحكام العقد الموقّع بين الوزارة والشركة، وأدّى إلى حرمان الخزينة من إيرادات مالية عن بدلات الإيجار بحوالي 500 ألف دولار.
تمديد العقد
تمّ تمديد العقد أربع مرّات بعد عام 2015 حتى تاريخه بنفس شروط التعديلات التي أُقرّت في 2002 والتي من شأنها حرمان الخزينة من مبالغ ماليّة كبيرة:
– المرّة الأولى: كانت لمدّة ثلاث سنوات بموجب كتاب وزير الاتصالات بتاريخ 19/8/2015.
– في المرّة الثانية مُدّد العقد لمدّة ثمانية أشهر بموجب قرار من مجلس الوزراء بتاريخ 5/9/2019.
– في المرّة الثالثة مُدّد العقد بموجب قرار مجلس الوزراء بتاريخ 5/5/2020 لمدّة أقصاها 31/12/2020.
– وأخيراً مُدّد العقد للمرّة الرابعة بناءً على كتاب الأمين العامّ لمجلس الوزراء بتاريخ 15/12/2020 وبموجب موافقة استثنائية من قبل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء من 1/1/2021 حتى 30/6/2021.
اعتبر ديوان المحاسبة في تقريره أنّ معظم التعديلات كانت تصبّ في مصلحة الشركة المشغّلة أكثر منها في مصلحة الدولة
نتائج وأرقام فاضحة
يصل ديوان المحاسبة في تقريره إلى نتائج عديدة تؤكّد تغيير طبيعة العقد من عقد مرتبط بتلزيم الإيرادات إلى عقد من شأنه ترتيب نفقات وأعباء على الدولة، ومن أبرزها:
– منذ مباشرة التنفيذ حتى تاريخه لم تُحسم مسألة المحاسبة المالية بين الطرفين، ولم يقوما بمحاسبة سنويّة بينهما.
– على الرغم من الواقع المتردّي الذي كان يشكو منه قطاع البريد قبل التلزيم لم يُسجّل في موازنة المديرية العامة للبريد أيّ عجز ماليّ، ولا سيّما أنّ نقل البريد للإدارات الرسمية كان يتمّ مجّاناً من دون مقابل.
– تطوير خدمات شركة ليبان بوست واعتبارها خدمات غير بريدية حرما الخزينة من حصّتها من واردات هذه الخدمات العديدة والمتنوّعة.
– مع انخفاض واردات المديرية العامة للبريد بنسبة كبيرة بعد التلزيم استمرّت الدولة بتحمّل النفقات التشغيلية من رواتب وأجور وقرطاسية وإيجارات فازدادت الخسائر على الخزينة.
– لم تسدّد ليبان بوست معظم بدلات إيجار إشغال المكاتب المملوكة من الدولة اللبنانية. وكان بدل الإيجار السنوي المتّفق عليه هو 991,938,000 ل.ل، وبلغ إجمالي بدل الإيجارات المستحقّة من 1/1/2001 حتى 31/12/2019 18,846,822,000 ل.ل.
– إجراء مقاصّات متكرّرة مع شركة ليبان بوست بالطريقة التي تمّت حتى تاريخه قد يتضمّن محاذير تعرّض المال العامّ للهدر، وذلك بسبب إمكانية دفع الالتزامات نفسها من قبل الإدارات الرسمية لصالح ليبان بوست مرّتين، مرّة مباشرة ومرّة عن طريق المقاصّة.
– تُظهر جداول مقارنة عائدات البريد المودعة في الخزينة قبل التلزيم وبعده أنّ المبالغ التي أُودعت في الخزينة عامَيْ 1997 و1998 قبل توقيع العقد بلغت 12,408,122,285 ل.ل مقابل إيداع مبالغ في الخزينة بعد توقيع العقد من عام 1999 حتى نهاية عام 2019 بلغت 5,128,531,624 ل.ل.
لوحظ أيضاً أنّ حصّة الدولة من الواردات بلغت 42,733,122,097 ل.ل، فيما تطالب شركة ليبان بوست بأجر وبدل نقل البريد لإدارات الدولة والمؤسّسات العامّة بقيمة 43,226,027,759 ل.ل، علماً أنّ الدولة ما زالت تصرف سنوياً على البريد، إذ تبيّن من الحساب الإداري العامّ للدولة لعام 2019 أنّ النفقات التشغيلية المصروفة من رواتب وأجور وقرطاسية وإيجارات وغيرها بلغت 4,120,127,000 ل.ل، وهذه عيّنة عن المبالغ التي تُصرف سنوياً على هذا القطاع.
– يسأل الديوان: كيف تكون المبالغ المودعة في الخزينة من هذا المرفق المهمّ بعد أكثر من عشرين عاماً من التلزيم أقلّ من نصف المبالغ التي أُودعت في الخزينة قبل التلزيم عن عامين فقط؟!
توصيات ديوان المحاسبة
دعا ديوان المحاسبة في التوصيات والمقترحات التي أوردها في تقريره إلى:
– توضيح كلّ النقاط الغامضة وإجراء محاسبة سنوية واضحة.
– ضرورة إعداد مخالصة مالية بين وزارة الاتصالات – مديرية البريد وشركة ليبان بوست، وهي التوصية التي انطلق منها الوزير قرم ومجلس الوزراء لإجراء “براءة الذمّة” من دون الالتفات إلى باقي تفاصيل التقرير.
– رفع النسبة المئوية على الإيرادات الإجمالية السنوية (حصة الوزارة)، وشمول هذه الحصّة الخدمات البريدية وغير البريدية التي تقدّمها الشركة المشغّلة.
– إعادة النظر في بدلات إيجار العقارات العائدة للدولة والمشغولة من قبل الشركة المشغّلة مع الأخذ بعين الاعتبار المصاريف التشغيلية.
– العمل على خفض تكلفة المراسلات البريدية للإدارات والمؤسّسات العامّة أو إلغاء هذه التكلفة بشكل نهائي، على غرار ما كان يقوم به قطاع البريد سابقاً قبل التلزيم، والمفارقة هنا أنّه لوحظ أنّ هذه الكلفة كانت تفوق حصّة الدولة من الإيرادات السنوية.
– ضرورة إعادة تلزيم القطاع بشروط جديدة تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات الواردة في متن التقرير بعد دراسة واقع البريد بطريقة شفّافة وموضوعية وشاملة.
تمّ تمديد العقد أربع مرّات بعد عام 2015 حتى تاريخه بنفس شروط التعديلات التي أُقرّت في 2002 والتي من شأنها حرمان الخزينة من مبالغ ماليّة كبيرة
المزايدة الجديدة
في 24 كانون الثاني من عام 2023 سيتمّ إجراء المزايدة الجديدة لتلزيم بريد الدولة، وتمّ تصحيح دفتر الشروط، بناءً على تقرير صدر عن إدارة المناقصات في 2/3/2022 (مرفق PDF)، بشكل يحفظ حقوق الدولة المالية قدر الممكن. ومن أبرز التعديلات إدخال جملة اقتراحات ضمن تمديد العقد مع الشركة المشغّلة من أجل رفع حصّة الدولة من الإيرادات في السنتين الأولى والثانية إلى 12.5% بدلاً من 5% (النسبة الحالية)، وإلى 15% في السنتين الثالثة والرابعة، وفي السنتين الخامسة والسادسة إلى 17%، وفي السابعة والثامنة إلى 20%، مع وجوب أن تكون حصّة الدولة على جميع الإيرادات والمنتجات الجديدة، سواء كانت حصرية أو غير حصرية.
هذا وعلم “أساس” أنّه حتى اليوم شركتان فقط أخذتا دفتر الشروط، وهما ليبان بوست وشركة CMA|CGM الفرنسية التي لُزّمت إعادة إنشاء مرفأ بيروت، والتي تجمعها بميقاتي علاقة مصالح سياسية أيضاً، ومن غير المعروف عنها أنّ لها علاقة بالنشاط البريدي، وهو ما يطرح السؤال: هل ستلجأ إلى التعاون مع شركة أخرى.
يؤكّد تقرير إدارة المناقصات أنّ تمديد العقد من جديد للشركة المشغّلة الحالية يشكّل خسارة على وزارة الاتصالات – المديرية العامة للبريد، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدم استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية التي يمرّ بها لبنان حالياً، والتي تجعل من التعاقد مجازفة كبيرة بالأموال العمومية بسبب ربط الإدارة لـ 12 سنة مقبلة.
لكنّ هذه التعديلات أو الاقتراحات لا تكفي، وفق رأي مصدر معنيّ مواكب للملفّ، لأنّ هذا الموضوع هو أحد أهمّ مزاريب قضم الدولة، “فالدولة لديها فقط هذا القطاع الذي يمكن أن يأتيها بإيرادات، وكان تلزيمه للقطاع الخاص خطأً منذ البداية، وأكبر دليل أنّه عندما كان مع الدولة عاد عليها بإيرادات في سنة واحدة بقدر ما جنته الدولة على مدى عشرات السنين من التلزيم”.
يلفت المصدر نفسه في حديثٍ لـ”أساس” إلى أنّ “العقد بدأ على نحوٍ جيّد، لكن أصبح مجلس الوزراء كلّ فترة يقضم فيه بعض المزايا الممنوحة للدولة ويعطيها للشركة المشغّلة، وبدا وكأنّ الشركة قد ربحت ورقة يانصيب، إذ تستثمر قطاعاً حيوياً فتأخذ منه كلّ شيء ولا تعطي الدولة إلا القليل جدّاً الذي لا تدفعه في وقته”.
إقرأ أيضاً: حكومة ميقاتي تسطو على الرواتب
يضيف المصدر أنّه “بدل أن تذهب الحكومة إلى تحرير هذا القطاع والاستفادة منه في عزّ أزمتها المالية، تتّجه اليوم بعد نهاية ولاية ليبان بوست إلى تلزيمه من جديد”، معلّقاً على تصريحات الوزير التي أعلن فيها أنّ الوزراة غير قادرة على ذلك بالقول: “أنت لديك موظفون يأخذون نصف الموازنة، فإمّا أن يعملوا وإمّا أن يذهبوا إلى بيوتهم، وإن احتاجت الوزارة إلى خدمة معيّنة أو خبرة معيّنة فلتشترِها أو تتعاقد معها من خارج الوزارة بدل أن تبيع القطاع”، ويسأل: “لماذا لم يتمّ تدريب موظّفي الوزارة بعد كلّ هذا الوقت ليكتسبوا الخبرات اللازمة ويحلّوا مكان الملتزم عندما ينتهي العقد؟!”.