بالإمكان إعادة ترتيب أحداث الأسابيع الماضية لفهم ماذا يجري لسعر صرف الليرة، ولماذا اتّخذ مصرف لبنان خطوته المفاجئة برفع سعر “صيرفة” إلى 38 ألف ليرة مقابل الدولار.
في 22 تشرين الثاني خرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مقابلة مع قناة الحرّة ليعلن بصريح العبارة أنّ السوق الموازية تحت سيطرته. قال بالعامّيّة: “نحنا قادرين نلم كل الليرات ساعة اللي منقرّر”. ثمّ أردف: “نحن قادرون على أن نضع مليار دولار ونجفّف السوق كلّه من الليرات”.
ماذا جرى منذ ذلك الحين؟ هل فَقَد سلامة السيطرة التي أعلنها بلسانه؟ أم كان صعود الدولار المتسارع في الأيام الماضية تحت سيطرته وضمن نطاقٍ رَسَمه بنفسه؟
تبرير بلا معنى
في بيانه الرسمي الذي أعلن فيه رفع سعر صيرفة من 31,200 ليرة إلى 38 ألفاً، عزا مصرف لبنان ارتفاع الدولار خلال فترة الأعياد إلى “عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود”، وذاك تبرير لا معنى له، لأنّ المضاربة والتهريب ليسا مستجدّين، ولأنّ آخر بيانات مصرف لبنان تشير إلى ارتفاع احتياطاته من النقد الأجنبي في الأسبوعين الأوّلين من كانون الأول بنحو 63 مليون دولار. وبالتالي، فإنّ الضغط لا يأتي من ميزان المدفوعات، بل من هندسة داخلية لسوق القَطْع.
موعد التدخّل تأخّر لأسباب واضحة، منها أنّ مصرف لبنان يؤدّب الصرّافين الذين كانوا يستعدّون لتدخّله منذ أسابيع، إمّا بتعميم جديد أو بضخّ مباشر للدولار
ثمّة تفسير آخر يتعلّق بإدارة الكتلة النقدية. حين أطلق سلامة تصريحه في تشرين الأول، كانت الكتلة النقدية المتداوَلة خارج مصرف لبنان تقارب 71 تريليون ليرة، وارتفعت في بيانات 15 كانون الأول الجاري إلى 74.8 تريليون ليرة. لكنّ قيمتها بالدولار انخفضت من قرابة 1.9 مليار دولار إلى أقلّ من 1.6 مليار دولار حالياً، علماً أنّ الكتلة النقدية كانت تعادل أقلّ من 1.4 مليار دولار في بداية الصيف.
مفاعيل تدخُّل المصرف المركزيّ
المعادلة واضحة: كلّما انخفض سعر صرف الليرة في السوق الموازية تنخفض قيمة الكتلة النقدية قياساً بالدولار، وبالتالي تصبح مفاعيل أيّ تدخُّل من مصرف لبنان في سوق القطع أكثر وقعاً وتأثيراً. فإذا ما وصل سعر الصرف إلى 50 ألفاً يمكن لمصرف لبنان أن يضخّ 100 مليون دولار فقط لسحب خمسة تريليونات ليرة من السوق، وهذا كفيل بتجفيف سوق الصرافة من الليرة، ودفع المضاربين إلى التهافت لبيع الدولار.
لكنّ موعد التدخّل تأخّر لأسباب واضحة، منها أنّ مصرف لبنان يؤدّب الصرّافين الذين كانوا يستعدّون لتدخّله منذ أسابيع، إمّا بتعميم جديد أو بضخّ مباشر للدولار. وقد خزّن كثيرٌ منهم ومن التجار الليرات استناداً إلى الشائعات المتداولة في هذا الإطار، وهم الآن يندبون خسائرهم.
لكنّ ما هو أهمّ من ذلك أنّ مصرف لبنان أفلت الزمام لارتفاع الدولار استعداداً لاستحقاقين مفصليَّين مرتقبين ستكون لهما تداعيات نقدية كبيرة في الأسابيع المقبلة.
ـ الاستحقاق الأوّل في مطلع شباط المقبل، حين يبدأ اعتماد سعر 15 ألف ليرة للدولار في التعامل بين مصرف لبنان والأسواق، ولا سيّما في تطبيق التعميمين 158 و161.
هذا الاستحقاق أُجبر عليه مصرف لبنان وهو كاره، بعد رفع الدولار الجمركي. وقد أرجأه لشهرين بدلاً من تطبيقه فور إقرار قانون الموازنة في تشرين الأول الفائت. وأحد أسباب الإرجاء أنّه يريد إعادة ضبط المعادلة بين سعر السحب من البنوك وسعر السوق الموازية.
ففي الصيف الماضي مثلاً كان سعر السحب من البنوك وفق التعميم 151 (8,000 ليرة) يعادل ربع سعر السوق، أي أنّ المودع كان يتحمّل نسبة “هيركت” تقارب 75%. فلو أنّ سعر السحب ارتفع إلى 15 ألف ليرة مع بقاء سعر السوق الموازية في نطاق 35 ألف ليرة لانخفضت نسبة الهيركت إلى أقلّ من 60%، وهذا ما لا يريده مصرف لبنان.
يجب أن تبقى نسبة الهيركت في نطاق قريب من 70% أو أعلى من ذلك، ليستمرّ مصرف لبنان في تذويب خسائره من خلال “ليلرة” الودائع الدولارية مع نسبة هيركت مرتفعة. لذلك يمكن الافتراض أنّ مصرف لبنان يريد لسعر الصرف في السوق الموازية أن يستقرّ في نطاق ما بين ثلاثة أضعاف إلى أربعة أضعاف سعر السحب من البنوك، بحيث لا يقلّ حدّه الأدنى عن 50 ألف ليرة، ولا يزيد حدّه الأعلى على 60 ألفاً.
ـ الاستحقاق الثاني هو تنفيذ زيادة رواتب القطاع العام بنسبة 200%، مع ما تعنيه من تصاعد إضافي للكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، حتى لو استمرّ صرفها بالدولار وفق التعميم 161، كما وعد رياض سلامة.
ستؤدّي زيادة الرواتب إلى ارتفاع فاتورتها من 1.3 إلى 3.3 تريليون ليرة شهرياً، مع ما تعنيه من زيادة هائلة للكتلة النقدية. وبحسب تصريحات رياض سلامة، سيضخّ مصرف لبنان 340 مليون دولار خلال ثلاثة أشهر لتطبيق التعميم 161 مع المفعول الرجعي لزيادة الرواتب.
إقرأ أيضاً: سلامة فَقَدَ “عصاه السحري”: متى ينخفض الدولار مجدّداً؟
ستؤدّي هذه الدولارات إلى تخفيف الضغط عن الليرة في المدى القصير، لكنّ مفعولها سلبيّ في المدى الأبعد، لسببين: الأوّل أنّها تشكّل مزيداً من الاستنزاف للقليل الباقي من احتياطات مصرف لبنان، والثاني أنّها ستعطي دفعة جديدة لمعدّلات التضخّم، لأنّها ستزيد الطلب المحلّي على السلع والخدمات، وبالتالي على الاستيراد. هل يمكن تخيّل أنّ رقم الـ 340 مليون دولار يعادل 16 تريليون ليرة على سعر صرف السوق الموازية حالياً؟!
يجهّز مصرف لبنان أدواته لمواجهة الاستحقاقين المقبلين، وهو سيعود إلى التدخّل في السوق في وقتٍ ما بلا أدنى شكّ، لكن ليس قبل أن يصل سعر الصرف إلى مستوى مستهدف يصلح لاستمرار تذويب فجوته المالية.