أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وقع المسؤولون الأميركيون في حيرة من أمرهم ممّا اعتبروه تفكيراً استراتيجياً صينياً غير عقلاني، وذلك عندما كانت المقاومة الصينية بفرعَيْها الوطني والشيوعي تقاتل الاحتلال الياباني. فعلى الرغم من كون هذين الفصيلين كانا حليفين مقرّبين في زمن الحرب، إلا أنّ أولويّة الزعيم الصيني في ذلك الوقت، شيانغ كاي شيك Chiang Kai-shek (توفّي عام 1975)، كانت في محاربة منافسه السياسي المحلّي (الشيوعي) ماو تسي تونغ Mao Zedong (توفّي عام 1976)، أكثر ممّا كانت حاضرة في طرد الغزاة اليابانيين من الأراضي الصينية. وبحلول عام 1944، لم يعد كلّ من شيانغ وماو مهتمّين بشكل أساسي بهزيمة العدوّ الأجنبي المشترَك، بل كان كلاهما يستعدّ للصراع الآتي ما بعد الحرب، والذي ستكون جائزته النهائية هي الصين نفسها. وبحسب تقدير شيانغ كاي شيك للموقف آنذاك، كما قال للصحافي ثيودور وايت Theodore White خلال لقائهما الأول في عام 1941: “اليابانيون مرض جلدي. أمّا الشيوعيون فهُم مرض القلب”. والمغزى واضح: يمكنك تحمّل المرض الجلدي غير المميت، لكنّ مرض القلب خطير، ولا يمكن التراخي في علاجه.
أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وقع المسؤولون الأميركيون في حيرة من أمرهم ممّا اعتبروه تفكيراً استراتيجياً صينياً غير عقلاني، وذلك عندما كانت المقاومة الصينية بفرعَيْها الوطني والشيوعي تقاتل الاحتلال الياباني
العدوّ القريب والعدوّ البعيد
ما قد يبدو غريباً عموماً، هو ليس كذلك بالنسبة للذين نشأوا منغمسين في النصوص الاستراتيجية الكلاسيكية للصين القديمة، كما يقول جون سوليفان John Sullivan الخبير في التاريخ العسكري الصيني القديم. ففي القرن الثالث قبل الميلاد، كُلّف رئيس وزراء ولاية تشين Qin، لوي بوي Lü Buwei، بمهمّة لأجل الملك الجديد، وهي صياغة مخطّط لتأسيس إمبراطورية موحّدة. وعُرف المخطّط باسم تواريخ لوي بوي Annals of Lü Buwei (أو Lüshi Chunqiu)، وهو خلاصة وافية لفنّ الحكم والحرب، والحِكَم المستمدّة من الأمثلة التاريخية للألفية السابقة. تروي إحدى المقالات القصيرة ما دار من نقاش بين حاكم ولاية “وو” Wu في القرن الخامس قبل الميلاد، الملك فوشاي Fuchai، مع مستشاره بشأن مهاجمة منطقة قويّة في شمال “وو”، هي ولاية “تشي” Qi. قال المستشار للملك إنّ ولاية “تشي”، ولكونها مختلفة ثقافياً ولغوياً عن ولاية “وو”، فهي تشكّل تهديداً وجودياً أقلّ من جارة “وو” الجنوبية الأقرب، وهي ولاية “يوي” Yue. هذه الولاية الجنوبية لديها العادات والممارسات نفسها مع ولاية “وو”، ولغتها مفهومة. كلّ ولاية يمكنها احتلال الولاية الأخرى، وحكم شعبها. وعليه، “لا يمكننا أن نوجد كلانا في الوقت نفسه”. ثمّ حذّر المستشار مليكه من خطر التركيز حصريّاً على التهديدات الخارجية من دون تحييد المخاطر الداخلية أوّلاً. إنّ ولاية “يوي” مثل السرطان في قلب “وو” وبطنها. قد لا يتفاقم المرض، لكنّ الضرر سيكون عميقاً لأنّه يقع في الداخل. أمّا “تشي”، فمثل حكّة على جلد “وو”. لا يسبّب الحكاك الضيق لمدّة طويلة، ولا يترك أيّ جروح دائمة.
تجاهل الملك نصيحة مستشاره مجبِراً إيّاه على الانتحار، ثمّ شنّ هجوماً ناجحاً على ولاية “تشي”. وكما توقّع المستشار، وبعد زمن وجيز من هذا النصر، سحقت ولاية “يوي” الجنوبية ولاية “وو”. وإثر الهزيمة، شنق الملك نفسه بعد أن عصَب عينيه، حتى لا يكون قادراً على مواجهة مستشاره السابق عندما يتقابل وإيّاه في الحياة الآخرة.
حربان معاً في الداخل والخارج
هذه الحكمة الصينية التاريخية طبّقها حرفيّاً الزعيم الصيني شيك ضدّ منافسه ماو، حتى قبل غزو اليابان لبلاده، عندما كان الغزو وشيكاً، وبوادره تتراءى أمام القيادة الصينية. بل بالغ زعيم الحزب القومي الصيني (كومينتانغ) شيانغ كاي شيك في اتّباع أولوية قتال العدوّ القريب، مستخفّاً بالخطر الياباني، ومطلقاً حرب إبادة ضدّ الشيوعيين الذين كانوا فيما مضى الجناح اليساري في الحزب الحاكم، مع الاحتفاظ بعقيدتهم الشيوعية، ونشرها داخل صفوف الحزب القومي. وعلى الرغم من اتّحاد الفريقين في جبهة موحّدة ضدّ أمراء الحرب في شمال البلاد، إلا أنّ شيك بدأ في الوقت نفسه حملات منهجية ضدّ الشيوعيين والجناح اليساري في الحزب الحاكم. وعندما اجتاح اليابانيون الساحل الصيني عام 1937، هدأت الحرب الأهلية لمواجهة العدوّ المشترك: اليابان، وتشكّلت جبهة موحّدة للمرّة الثانية. ثمّ استؤنفت الحرب الأهلية بين عامَيْ 1946 و1950، فانهزم القوميون وانكفأوا في جزيرة تايوان، وسيطر الشيوعيون على البرّ الصيني.
الاستنتاج الممكن من هذا السياق التاريخي أنّ إعطاء الأولوية للعدوّ القريب على العدوّ البعيد كانت نتيجته وخيمة.
بنظرة معمّقة لصراع السلطة في القرن الواحد والعشرين، بين الجماعات والأحزاب والدول، في العالم العربي ومحيطه، يتبدّى لنا أنّنا أوفياء للحكمة الصينية، بل نطبّقها بكلّ صرامة واجتهاد
الحكمة العربيّة: العدوّ البعيد أوّلاً
الحكمة الصينية المستقاة من التجربة التاريخية قد تكون معاكسة تماماً للحكمة العربية المأثورة: “أنا وأخي على ابن عمي. وأنا وابن عمي على الغريب”. وهي تناقض كذلك نظرية ابن خلدون في تشكيل العصبية الآيلة إلى قيام الملك. فبحسب ما جاء في مقدّمته الشهيرة، تتكوّن العصبية من أقرب الأقربين، في قبيلة ما، فتتغلّب أسرة وعشيرة من بين الأسر والعشائر على مجمل القبيلة وبطونها وفروعها، فتصبح كتلة صلدة مستعدّة للسيطرة على الحكم المترفِّه، والمتراخي، الفاقد للعصبية ولكلّ عناصر القوّة الأصيلة. ومن بعد ذلك، وفي الجيل التالي، يبدأ الصراع الداخلي بين تكوينات العصبية، فيستبدّ الحاكم بمغانم السلطة وبَهرجها دون أقربائه، ويستعين بالغرباء عليهم. لكنّ الدولة حين تفضّل البعيد على القريب، وعندما تضع أولويّاتها على قاعدة البدء بالعدوّ الأقرب أوّلاً، فإنّما تكون ترسم نهايتها بيديها.
“الفتنة” و”الجهاد”
بنظرة معمّقة لصراع السلطة في القرن الواحد والعشرين، بين الجماعات والأحزاب والدول، في العالم العربي ومحيطه، يتبدّى لنا أنّنا أوفياء للحكمة الصينية، بل نطبّقها بكلّ صرامة واجتهاد.
استهداف المنافس من النوع نفسه بوصفه العدوّ الأقرب الأَولى بالقتال، هو ما يُسمّى في الأدبيّات الإسلامية بـ “الفتنة”. أمّا ردّ العدوان الخارجي فهو المسمّى بـ”الجهاد”. وعلى سبيل المثال، لم يحظَ أيّ تنظيم مسلّح متمرّد في العالم العربي بما حظي به تنظيم “داعش” الإرهابي، من رعاية أجهزة استخبارات إقليمية ودولية عدّة، ولأهداف متناقضة ومتقاطعة، ومن تمويل سخيّ، وإعلام منتشر، ومن مدد لا ينقطع من “المهاجرين” بالاتّجاه المعاكس من الغرب إلى الشرق، ومن دون عوائق تُذكر، لإقامة “الخلافة”، تلك العبارة التي تدغدغ الأحلام والمشاعر. ومع ذلك، فإنّ “داعش”، بعدوانه على أهل السُّنّة في العراق وسوريا، بأشدّ ممّا فعله مع خصومه، حفر نهايته بيده. وأُضيف إليه استفزاز الولايات المتحدة، والغرب عامّة، لا لشيء إلا لتأكيد شرعيّته أمام أتباعه، جعل أعداءه في الخارج والداخل يتألّبون عليه حتى قضوا عليه، ولم يبقَ إلا الفلول الشاردة في الصحارى والأدغال والجبال النائية.
من قبله، رفعت إيران الثورة، منذ عام 1979، شعار الوحدة الإسلامية وتحرير القدس. وظلّت مواظبة على هذا الشعار حتى في أشدّ لحظات الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). وعندما استغلّ الرئيس العراقي صدام حسين بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982 ليعلن وقف إطلاق النار في الجبهة الشرقية، تخلّصاً من المأزق الذي أوقع العراق فيه، وتحت عنوان التفرّغ للخطر الإسرائيلي، رفضت إيران مبادرة صدّام، وبرّرت للمسلمين استمرار القتال، ومحاولاتها المتواصلة لاختراق الجبهة، واحتلال البصرة في الجنوب، بأنّ طريق القدس تمرّ إلزامياً من البصرة. صدّام حسين، بتعبير قادتها، يمنع القوات الإيرانية من المرور بأمان نحو القدس، وعليهم شقّ طريقهم بالقوّة. مرّت الأيام ووقعت هجمات 11 أيلول 2001، فرأت فيها إيران الفرصة الأغلى. تحالفت عامَيْ 2001 و2003 مع “الشيطان الأكبر”، أي الولايات المتحدة، لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان، ونظام صدّام حسين في العراق. ثمّ تحالفت مع شياطين الأرض لمنع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا عام 2011 وما تلاه، بالضدّ من ملايين السُّنّة الذين هجروا بلادهم وافترشوا الشوارع في المنفى، بذريعة أنّ الثورة ستغلق طريق القدس أمامها، وهي في شوق شديد لتحريرها من الصهاينة. فما إن اشتعلت الحرب في اليمن عام 2015، حتى دعمت طهران جماعة الحوثيين، وزوّدتها بالمسيّرات والوسائل اللازمة لقصف حواضر المملكة العربية السعودية، وما حولها، فهل الهدف الأصلي هو تحرير القدس، أم “تحرير” مكة؟ وهل الصراع الحقيقي هو مع المسلمين الآخرين، لا مع اليهود ولا غيرهم، إلا بوصفهم معارك جانبية لا بدّ منها؟
إقرأ أيضاً: تقرير بريطانيّ: وقائع خسارة بوتين معركة احتلال كييف
القاعدة والشيعة والاحتلال
من أغرب ما جاء في تقرير للجيش الأميركي في ذروة الحرب الأهلية المذهبية في العراق بين عامَيْ 2005 و2006، التي كانت مشتعلة بموازاة مقاومة الاحتلال الأميركي، والتي لا يمكن مقارنتها إلا بمقاومة فيتنام في السبعينيات، لبراعتها وقوّتها، أنّ تنظيم القاعدة في العراق بقيادة أبي مصعب الزرقاوي كان يعتبر أنّ معركته الحقيقية هي مع الشيعة وليس مع القوات الأميركية. لكنّ التنظيم كان يعمد إلى شنّ عمليّات ضدّ الأميركيين قبل أو بعد تنفيذ عمليات قتل واسعة النطاق ضدّ الشيعة دونما تمييز، حتى يغطّي النوع الأوّل المشروع النوع الثاني غير المقبول. وذلك إلى أن بدأ التنظيم يستهدف السُّنّة المنخرطين في أجهزة الأمن وقوى الجيش. تحوّل من العدوّ القريب (الشيعة)، إلى العدوّ الأقرب (سُنّة الدولة العراقية بعد سقوط صدّام). وهو ما قلب مزاج السُّنّة رأساً على عقب، فانتفضت العشائر السنّيّة على كلّ فصائل المقاومة تقريباً، بالتعاون مع الأميركيين، حتى اضطرّت إيران إلى تقوية فصائل شيعية مقاومة للأميركيين. صحيح أنّها تعاونت في البدء مع واشنطن، لكنّها كانت مستفيدة من المقاومة السنّيّة لإخراج الجيش الأميركي والهيمنة على العراق.