أُنجزت النسخة الأخيرة من مشروع لبنان الفدرالي. 36 صفحة تفيض بكلّ “الأسباب الموجبة” والخلفيّات والتطلّعات، بكلّ التفاصيل والخرائط والتنظيمات المتفرّعة من قانون أساسيّ كامل. بات المشروع، الذي أعدّته مجموعة مسيحية، لدى عدد من المؤسسات الدولية الكبرى. دبلوماسيون كثر اطّلعوا عليه. من بيروت إلى واشنطن وما بينهما. ما يُسمّى “أقطاب الموارنة” المختزِلون للمسيحيين، ناقشوه كلّهم. لم يرفضه أيٌّ منهم… بعضهم جمع له “مستفكريه” ودينيّيه. آخرون رحّبوا. بعضٌ ثالث ناقش في التوقيت ومقوّمات التحقّق وفرص النجاح. كلّهم تعاملوا معه مدركين أنّهم مأزومون…
لكن هل هذا يعني أنّ المشروع بات واقعاً؟
كلام كثير لا بدّ منه ههنا. علّ من يسمع عشيّة الميلاد.
**********************************
مضى قرن ونيّف على مشروع هذا اللبنان. كان ذلك غداة سقوط السلطنة العثمانية. ظهر في المنطقة يومها عدد من المجموعات الإتنو – دينية، التي يسعى كلّ منها إلى بناء دولة خاصّة به. الصهيونية اليهودية كانت قد بدأت مشروعها المستورَد قبل عقود. الدروز والعلويون حاولوا مع الانتداب، أو حاول هو معهم، بناء دويلتين عابرتين قبل تبدّل الحسابات. الكرد احترفوا النضال الأبديّ. الأرمن رفعوا شعار حقّهم بالدولة التاريخية المنبثقة من رسوّ فلك نوح على قمّة أرارات، قبل أن يغرقهم طوفان المذابح… أمّا الموارنة فوجدوا أنفسهم على طريق مستقيم متواصل منذ قرنين على الأقلّ، منذ نشوء الإمارة ثمّ القائمقاميّتين فالمتصرّفية. هكذا بدوا وحدهم في مسار الأمتار الأخيرة قبل الوصول. ووصلوا. وكان لبنان.
الدروز حسموا خيارهم باكراً، أقلّ من خمس سنوات كانت كافية لينتفضوا ضدّ الفكر الأقلّوي المحميّ إفرنجيّاً، ويلتحقوا بالمشروع “القومي” المؤدلَج أكثريّاً. على قاعدة الاحتماء بالمألوف ربّما
بعد قرن كامل، تثير مراجعة تلك المشاريع في راهنيّتها، الكثير من المفارقات:
الصهيونية نجحت. لكن في بناء دولة عنصرية عدوانية استيطانية. تعيش منذ سبعين عاماً بصيغة المياومة، على فالق تاريخي بين طبقتين زلزاليّتين: عقدة ذنب الغرب المفبرَكة والمولِّدة لتشوّهات الصهيو-مسيحية، والفكر الإسلاموي الماضوي… إذا أُزيحت واحدة من الطبقتين، سقط الكيان في علّة وجوده.
الدروز حسموا خيارهم باكراً، أقلّ من خمس سنوات كانت كافية لينتفضوا ضدّ الفكر الأقلّوي المحميّ إفرنجيّاً، ويلتحقوا بالمشروع “القومي” المؤدلَج أكثريّاً. على قاعدة الاحتماء بالمألوف ربّما. تخطّوا أربعة قرون كاملة من أسطورة ذلك التمرّد الدرزي المديد المؤسِّس لفكرة الجبل، كما وصفه بتدقيق موثَّق المؤرّخ الراحل عبد الرحيم أبو حسين، ليركنوا إلى عيش ثنائية أخرى، بين الأمّة والجماعة، بين القومية والخصوصية.
دولة العلويّين الدمويّة
العلويون بنوا دولتهم المقنّعة بعسكريتاريا قوميّة، مسنودة إلى قوّة بطّاشة. دولة تعيش منذ خمسين عاماً ونيّف على دورات الدم الموسمية. لا ذنب لهم في ذلك ربّما. فهي طبيعة الطبيعة، في الصراع التلقائي لثنائية المركز مع الأطراف: فالأكثرية السنّيّة أقامت دولتها التاريخية في دمشق المركز. وهو ما دفع بالأقلّيات دفعاً صوب هوامش الجغراسياسة الوطنية البعيدة. ومنهم العلويون الذين لجأوا إلى جبلهم. هناك تتحوّل الأقلّية المستبعَدة والمهمَّشة إلى مجتمع ريفي. تقتصر حياته الشظفة على بعض زراعة، وبعض دينيّات باطنية، والكثير من موظّفي القطاع العامّ. وفي تلك الأزمنة والأنظمة، القطاع العام يعني غالباً العسكر لا سواه. هكذا تصير القاعدة أن يذهب أبناء الأطراف إلى المؤسّسة العسكرية سعياً وراء لقمة العيش، قبل حماية النظام. وهكذا، ومن دون دراية ولا مؤامرة، وبعد أعوام قليلة، تصير أكثرية جيش النظام مكوّنة من أبناء الجماعات الرافضة له، التي أقصاها وهمّشها، فيقع الانقلاب.
بعده تنقلب المعادلات كلّها. يستقرّ النظام الأقلّوي الجديد في المركز محلّ الأكثرية، فيستجلب من الأطراف مناصريه الذين يسيطرون على منافع السلطة الجديدة. ويطرد أبناء المركز، المحرومين الجدد، إلى أطراف مستجدّة أو إلى عشوائيّات مستحدَثة، فيصير تبادل كامل للأدوار، وينطلق دوريّ الدم الموسميّ…
الكرد مشوا عقوداً مقابلة بين ألغام سُنّة البعث وشيعة الدعوة، حتى تنبّه ديك تشيني إلى ثروة النفط تحت أقدام الطرفين. فبدأ حروبه الديمقراطية وحملات بناء دول حديثة بأسماء وأجندات عتيقة
الأرمن ولينين ونفط الكرد
الأرمن انتظروا سبعين عاماً حتى مات لينين ودُفن خلفاؤه ذات يوم من أواخر الثمانينيات في مرفأ غدانسك البولوني على أيدي ثلاثة كاثوليك “تضامنيّين” مع العذراء السوداء: فاليسا في وارسو، وبريجنسكي في واشنطن، وفويتيلا الذي صار اسمه يوحنّا بولس الثاني في روما. سقطت إمبراطورية موسكو، فعاشت دولة يريفان.
الكرد مشوا عقوداً مقابلة بين ألغام سُنّة البعث وشيعة الدعوة، حتى تنبّه ديك تشيني إلى ثروة النفط تحت أقدام الطرفين. فبدأ حروبه الديمقراطية وحملات بناء دول حديثة بأسماء وأجندات عتيقة. عندها تسلّل الكرد، بين حرب وحلبجة، واقتنصوا كيانيّة، أقلّ من دولة وأكثر من حكم ذاتي. ولبثوا يحلمون، كلّما قضى من حولهم ديكتاتور صغير، بكردستان كبرى.
وحدهم المسيحيون بنوا هنا منذ قرن كامل دولةً، يُفترض أنّها مدنية علمانية، كما وصفها البطريرك الحويك لكليمنصو عند التأسيس. دولة وُجدت بسببهم، لا من أجلهم. وقامت بهم ومعهم ومع آخرين. لا عنهم أو لهم وحدهم. قبل أن يُفسد “مقاطعجيّوهم” كلّ ما فيها. مدنيّتها وعلمانيّتها. مارونيّتهم ومسيحيّتهم. وصولاً إلى لبنانيّتهم وعروبتهم. حتى أضاعوها وخسروها بعد مئة عام. فيما نجح الآخرون كلّهم في بناء دولهم.
طبعاً ليست هزيمة الفكرة اللبنانية مسؤوليّتهم وحدهم. كثر شاركوا في الجريمة: قيام إسرائيل بكلّ تداعياته. مصلحيّة الغرب الطاغية في كلّ سياساته. العقل السياسي السوري الثابت، أيّاً كان اسم رئيسه المؤبّد، حيال فوبيا لبنان. أزمة الديمقراطية في الإسلام السياسي المنبعث دوريّاً في كلّ المحيط… وصولاً إلى مسؤولية هؤلاء الذين ورثوا ألقاب أقطاب المسيحيين.
نهاية الحرّيّة والحداثة
لأنّه في الأساس، لم يكن مشروع هذا اللبنان غير تراكم تاريخي لمساحتين اثنتين: الحرّية والحداثة لا غير. حين تتقلّص المساحتان، أو حتى تتجمّد أيٌّ منهما، ينتهي المشروع المنشَأ تحت عنوان الريادة: أوّل وأكبر جامعتين في الشرق. أوّل مطبعة فيه. أوّل مستشفى مع نابوليون الثالث. أوّل مدرسة. أوّل مصرف. أوّل مرفأ حديث. أوّل النهضة. أُولى الأيديولوجيّات بكلّ دوائرها الجغرافية. القومية اللبنانية بِنت أفكارهم. من بولس نجيم (جوبلان) إلى يوسف السودا. السوريّة أيضاً، مع سعادة وقبله سمنه وغانم، حتى شقيق البطريرك الحويك. العروبية كذلك، ولو كانت ردّ فعل ضدّ التتريك، مع عشرات الأسماء. حتى الأمميّة في هذه البقعة منهم، من يوسف إبراهيم يزبك إلى جورج حاوي وما بينهما.
كان دور المسيحيين صناعة الأفكار التي تجترح أبعاداً لأوطان كثيرة. قبل أن يتحوّلوا إلى فبركة الأزلام الذين يسقطون في زقاق دسكرة. حتى نُسب إلى أحد كبار مفكّريهم كلامٌ صائب في المقتل. قال الأب ميشال حايك يوماً عن لبنانهم وزعمائهم: “قضيّة كبيرة، حملها أشخاص صغار. فأسقطوها وأسقطتهم”.
جاءت الحرب لتمسخ كلّ شيء. وجاءت السيادة بعدها فلم يصحّحوا أيّ شيء ممّا مُسخ. قبل 1975 كان أقطاب مسيحيّي لبنان يُستقبلون في دول الجوار والأبعد، وكأنّهم رؤساء دول. اليوم لا من يستقبلهم حتى في سوريا الأسد.
انهار كلّ شيء. انقلب الزمن المتخيَّل جميلاً إلى خراب عميم. يستلذّه الزعماء جميعاً، لاستدامة زعاماتهم. وتهرب منه ضحاياه، لاجئة إلى جلّادها. تحتمي بالزعيم من خوفها منه. وتحتاج إليه لمواجهة نظام الحاجة الذي فرضه عليها
نهاية “جيل المحرّضين”
في أسوأ أيام زمن الوصاية، كان بين الأربعة والثلاثين نائباً مارونياً في البرلمان، مجموعة دائمة يُنظر إليها على أنّها مؤهّلة للرئاسة، لا داخلياً وحسب، بل خارجياً أيضاً، ويتمّ التعامل مع أسمائها على أنّهم كذلك. اليوم بعد 17 عاماً على السيادة والتحرير وكلّ تطبيل القوّة والأقوياء، ليس في المجلس من يتعاطى معه قائمقام منطقته على أنّه نائب عنها. اللهمّ إلا إذا كان القائمقام من خزمتجيّي زعيم النائب المنصَّب.
هكذا تدهوروا من جيل المحرّضين على الكلمة والفكرة، إلى طبقة من “سياسيين- لولار”، كما سمّاهم أحد ظرفاء السياسة. أسماء مرصودة في حسابات مجمّدة لزعامات متكلّسة. لا يُصرفون في الحكم ولا في التشريع ولا في الفكر ولا في الثقافة. إلا ثقافة تأليه الأصنام.
لم يحصل ذلك بالصدفة. كان نتاجاً مدروساً لعملية القضاء المنهجي على الديمقراطية الداخلية لكلّ تكويناتهم السياسية الحزبية. لا لشيء، إلا خدمة لمشاريع توريث فردية هشّة بلا شرعيّات ولا مشاريع. وحين تموت الديمقراطية تُوأد النخب وتطفر الفطريّات، ليحيا الزويعِم على أنقاض دينامية مجتمعه، وهو مدرك أنّ بقاءه مشروط بذلك القتل غير الرحيم. فلا يتردّد عنه ولا يتراجع حتى يسود نظام “التفاهة-قراطية” (Mediocracy)، كما شرّحه كتاب ألان دونو.
انهار كلّ شيء. انقلب الزمن المتخيَّل جميلاً إلى خراب عميم. يستلذّه الزعماء جميعاً، لاستدامة زعاماتهم. وتهرب منه ضحاياه، لاجئة إلى جلّادها. تحتمي بالزعيم من خوفها منه. وتحتاج إليه لمواجهة نظام الحاجة الذي فرضه عليها.
هكذا وصل هذا اللبنان إلى مرحلة النزع والاحتضار. لأنّ المسؤولين عنه لم يدركوا غائيّته النهائية. ولم يفهموا مساره الوجودي. مشروع بدأ كيانيّة خاصّة مع الدروز والموارنة. لكنّه لم يتحوّل مشروع كيان دولتيّ، إلا حين انضمّ إليه الآخرون، كلّ الآخرين، خياراً إرادياً واعياً.
مشروع محكوم بأن يظلّ بلداً، بالمفهوم البلديّ للكلمة، تحت حكم “المقاطعجيّي”. ولا فرصة لتحوّله مشروع وطن، إلا متى أينعت فيه فكرة مثل 17 تشرين، تفتح تقوقعاته على مدى إنسان مواطن.
بعد مئة عام ونيّف على مغامرة الحرّية والحداثة، لم تعد بيروت تؤوي مضطهَداً واحداً. بل صارت تضطهد أهلها وتقتلهم بالجوع والنيترات. ولم تعد بيروت منارة العصرنة. صارت ظلّاً شاحباً لعودات أبنائها في المناسبات، من عواصم الحداثة الخليجية… اليوم يعود المشروع القهقرى في كلّ مقوّماته. من الوطن إلى المكان. ومن الكيان إلى الكيانيّة. فلا غروَ ولا غرابة أن يكون مسيحيّوه أوّل المتقهقرين وأسرعهم…
إقرأ أيضاً: من يملك شجاعة القبول؟
الآن يعودون إلى قلعتهم المذهبية والطائفية. تماماً كما عادت بلدان المنطقة بعد فشل الدولة القومية، إلى الخطاب الإسلاموي. هكذا يعود بعض المسيحيين إلى خطابهم “الانعزالي”. كأنّ لسان حال هؤلاء يردّد في سرّه، بانتظار العلن والإعلان، أنّنا حاولنا عبر مشروع لبنان، ففشلت المحاولة. بمعزل عن مسؤوليّات الفشل وتوزّع نسبه. ثمّ حاولنا مع سوانا في 17 تشرين. فقُمعت المغامرة الحلوة وسُحقت بالدم. فلم يعد لنا الآن إلا الخصوصية والذاتية.
هل هذا هو الخيار الوحيد؟ أو الصائب؟ وماذا عن مسؤوليّات الآخرين فيه، وتحديداً مسؤوليّة حزب الله؟
… فلنتابع.