منذ اندلاع أحداث 17 تشرين 2019 وما تلاها من انهيار مالي واقتصادي واجتماعي لم تبلغ العبثية والفوضى مداهما كما يحصل اليوم. إذ يسود شبه شغور تقريباً يتجاوز رئاسة الجمهورية والحكومة ليصل إلى عتبة مجلس النواب مع فيتو مسيحي مزدوج ضدّ الحوار وعقد جلسات نيابية خارج “مهمّة” انتخاب رئيس الجمهورية… وفوق كلّ ذلك شغور أمنيّ امتدّ من مجلس القيادة في قوى الأمن الداخلي إلى المجلس العسكري في قيادة الجيش.
وفق الأرقام باتت حصيلة هذه المواجهة حتى الآن متواضعة لجهة القدرة المحدودة على تنفيس “مشروع” الأوراق البيضاء في معركة انتخاب رئيس الجمهورية من 52 إلى 39 فـ 37 في الجلسة العاشرة الأخيرة
تكتمل الكارثة بملامسة الدولار الأميركي عتبة الخمسين ألف ليرة، وتسعير السلع الاستهلاكية بـ”دولار مافيويّ” يتجاوز كلّ منطق اقتصادي من جانب “عصابات” باتت خبيرة في مصّ دم اللبنانيين وفي مراكمة ثروات “لولد الولد”.
في وضعٍ يُقارِب النكبة الوطنية يزداد الكباش السياسي الداخلي حماوةً حامِلاً مؤشّرات تنبِئ بمزيدٍ من التصعيد، وهذه المرّة على شكل مواجهة لم يسبق لها مثيل منذ توقيع اتفاق مار مخايل عام 2006. إذ للمرّة الأولى، وبما يُذكّر بمرحلة الاتفاق الرباعي، يقف الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في مواجهة غير متكافئة سياسياً مع الثنائي الشيعي ورئيس حكومة تصريف الأعمال ووليد جنبلاط والقوات اللبنانية والكتائب ومجموعة من النواب المستقلّين والتغييريّين.
هل يمشي الحزب بالتسوية من دون باسيل؟
وفق الأرقام باتت حصيلة هذه المواجهة حتى الآن متواضعة لجهة القدرة المحدودة على تنفيس “مشروع” الأوراق البيضاء في معركة انتخاب رئيس الجمهورية من 52 إلى 39 فـ 37 في الجلسة العاشرة الأخيرة.
لكنّ لهذه الأرقام دلالاتها المضادّة أيضاً ومفادها أنّ أيّ تسوية رئاسية لا يرضى بها باسيل قد تأتي بسليمان فرنجية أو جوزف عون أو مرشّح ثالث رئيساً للجمهورية، لن يتمكّن رئيس التيار الوطني الحر بمفرده، مدعوماً من بعض النواب، من الوقوف بوجهها. وهو المحظور الذي يحاول حزب الله حتى الآن تفاديه منعاً لإيصال العلاقة مع العونيين إلى نقطة اللاعودة.
أمّا حكومياً فصدر القرار الداخلي لدى حزب الله: حضور أيّ جلسة وزارية تكتسب طابع الضرورة القصوى، ولا تغطية للمراسيم الجوّالة الموقّعة من الـ 24 وزيراً وإلا يُعتبر ذلك، بالتفاهم مع نبيه برّي، “نَسفاً” لجلسة 5 كانون الأول ونزع الغطاء عن مشروعيّتها الدستورية.
عكس النائب علي فياض أمس جزءاً من هذا الواقع بتأكيده “عدم وجود فيتوات رئاسية على أحد”، و”عدم استسهال حزب الله انعقاد مجلس الوزراء حالياً، لكن لا نزال عند رأينا، فعندما نستطيع إدارة الدولة والدفع بلا حاجة إلى مجلس الوزراء سنعمل بهذه الطريقة”، قاصداً تصريف الأعمال من خلال عمل الوزارات.
إنّ الترجمة الحرفيّة لكلام فيَّاض هي أنّ الحزب مع أيّ جلسة وزارية لا مفرّ منها دستورياً وضدّ مطلب المراسيم الجوّالة، ما دامت الحكومة قادرة على أن تجتمع لوجستياً، وضدّ توقيع الـ 24 وزيراً على المراسيم الذي فرضه الثنائي الشيعي سابقاً على حكومة تمام سلام.
يتمسّك رئيس التيار جبران باسيل، بمؤازرة علنية من الرئيس عون، برفض انعقاد مجلس الوزراء “إلا إذا وقع حدث كبير وخطير مع شرط الإجماع المسبق على عقده وتحديد جدول أعماله”
وسيط بين باسيل والحزب
حتى في معركة “جَلب” رياض سلامة أمام القضاء وقف التيار الوطني الحر وحيداً مع إدارة ظهر كاملة من حزب الله، فيما كان لافتاً ما سُرّب من كلام نقلاً عن الرئيس عون خلال رئاسته اجتماع الهيئة السياسية في مقرّ التيار الوطني الحر عن “تواصل مسؤولين من الحزب معه بهدف عقد لقاء لاستيضاح ما حصل، لكنّه أحالهم إلى رئيس التيار الوطني الحر، لأنّ المشكلة السياسية هي مع باسيل بصفته رئيس التكتّل”.
تكمن حقيقة الأمر، وفق معطيات “أساس”، في أنّ عون تحدّث عن “وسيط (لا عن مسؤولين من حزب الله) يتحرّك بين الطرفين، وقد قَصَد ميشال عون في منزله في الرابية لتقريب المسافات مع الحزب ومحاولة حلحلة الأمور، لكنّ عون بادره بالقول بما معناه: “يللي مختلفين بيحكوا مع بعض وأنا لا علاقة ولا صفة لي بالموضوع”.
إلى ذلك تفيد المعلومات أنّ تحرّك الوسيط أتى عقب تسريب مواقف إعلامية للرئيس عون، لم يجرِ نفيها من قبل الأخير، تحمِّل حزب الله مسؤولية مباشرة عن مراكمة الخسائر على كاهل العهد وصولاً إلى تذكير حزب الله بأنّ العقوبات الأميركية على باسيل سببها رفض الأخير فكّ التحالف مع السيّد حسن نصرالله.
دفتر شروط باسيل
في هذا السياق تؤكّد مصادر قريبة من حزب الله لـ”أساس” أنّه “باستثناء التواصل الروتيني بين الطرفين لا جلسات حوار ولا نقاش معمّقاً في نقاط الخلاف ولا قرار حزبيّاً بفتح دفاتر ورقة تفاهم مار مخايل في هذا الظرف، مع العلم أنّنا كنّا دائماً منفتحين حيال هذا الأمر. ثمّة أزمة ثقة حقيقية لا يردم فجوتها سوى استيعاب الطرفين المُتبادَل لمواقفهما حيال عدّة ملفّات”.
هذا ويؤكّد مطّلعون أنّ التيار الوطني الحر بات يضع دفتر شروط لعلاقته مع حزب الله أحد أهمّ “اختباراته سيكون استحقاق رئاسة الجمهورية واتّخاذ موقف من ممارسة الحكومة الحالية لصلاحيات رئيس الجمهورية ووضع فيتو على تسمية ميقاتي مجدّداً لرئاسة الحكومة ومجاراة “التيار” في أولويّات مرحلة ما بعد ميشال عون”.
اجتماع الحكومة بعد العيد؟
في تعميم داخلي صدر قبل أيام عن رئاسة التيار الوطني الحر يتعلّق بـ”توجّهات” المرحلة سياسياً وإعلامياً، أقرّت القيادة بأنّ المفاعيل السلبية لجلسة الخامس من كانون الأول “لم تنتهِ ولن تنتهي إلا بالتراجع عن الجلسة واستبدالها بحلول متوافرة ميثاقياً ودستورياً، ومنها المراسيم الجوّالة عند الحالات الضرورية والاستثنائية موقّعةً من الـ 24 وزيراً”.
يتمسّك أيضاً رئيس التيار جبران باسيل، بمؤازرة علنية من الرئيس عون، برفض انعقاد مجلس الوزراء “إلا إذا وقع حدث كبير وخطير مع شرط الإجماع المسبق على عقده وتحديد جدول أعماله”.
إقرأ أيضاً: هل يرفض وزير الدفاع توقيع التمديد للضبّاط؟
لكنّ الأبرز في بيان قيادة التيار هو التأكيد للمحازبين أن “لا تواصل بين التيار والحزب في الموضوع”، مع التشديد على أنّ “الخطأ فادح ويتمثّل بتغطية جريمة ميثاقية”.
لقد عكست مواقف ميقاتي الأخيرة، كما الثنائي الشيعي، تريّثاً ورغبةً باستيعاب الرفض الباسيليّ لانعقاد الحكومة حتى نهاية العام، مع العلم أنّ رئاسة الحكومة ترى أنّ بند ترقيات الضبّاط وتجديد عقود المتعاقدين في الإدارات مسائل ملحّة لا يجوز التعاطي معها من منطلق أنّها بنود قابلة للتأجيل.